د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تضوع الأوقات حينًا وتضيع أحيانًا، وننجز حين يستغرقنا عمل كما نعجز حين يلهينا دجل، ومنذ اتسع مجال الكلام وصارت لكلٍ مقولاتُه ونقولاتُه بتنا نتبادل رسائل ذات إيحاءاتٍ سلبيةٍ موجعةٍ تنتهي بإحباط أجيالٍ ما يزال مداها المستقبلي مورقًا بالوعد.
** ما الظن أن ثمة متبرمين من كل شيء كمن يسمون النخب، وهو حق لهم ما ظلَّ هدفُهم الإفصاحَ في سبيل الإصلاح، وحق عليهم إذا تجاوزوه - ولو لم يتعمدوا - ليقودوا إليه العامة حتى يصير الزائد ناقصًا والإيجابيُّ سلبيا.
** المشكلة هنا ليست في الجديرين الورعين؛ فهذه خليقةٌ متأصلةٌ في تكوينهم التربوي والمعرفي، ولم يكن ولن يكون دورُهم إحراقَ البخور الزاكي دفعًا أو استجلابًا، ومتى اتسموا بالموضوعية العلمية والمشروعية الأخلاقية فإن رؤاهم تلقى أصداءً جيدةً ويصبح المتأثرون بهم على وعيٍ موازٍ بالقضايا التي يحملون همَّها، وسنظل مدينين بالعرفان لمن أصَّلوا الطرح ونأوا عن الجَرح.
** وإذن؛ فالمشكلةُ في المتزيِّين بعباءاتهم الذين يتناولون القضايا بابتسارٍ وتعجل وأنواتٍ متورمةٍ فيهيمون في كل وادٍ وكل نادٍ ظنًا أن كثرة ظهورهم تمنحهم موقعًا عليًا؛ فيُحسبُ لهم ما يتقولون ويُخشى مما يستثيرون.
**وفي الأدبيات المعولمة أحاديث طويلة عن مزالق الجهل الذي يرتدي عباءة العلم، وأنصافِ المتعلمين الذين يعرفون أجزاء الحقائق، ومن يتعادل في موازينهم الذهنية النور والديجور، وهو ما يقود التيارات الجماهيرية المستقبِلة إلى السير المغمِض نحو تيه الغموض.
** وما نشهده اليوم من اضطراب الخطاب الشعبوي المنفلت وتناقضاته وردود الأفعال المتسارعة قبل التثبت من صدقيته وما يتلوها من أحكام عامة تطالُ الشخوص والنصوص دون تمييز يتضاءل لو كان دور النخب دورًا قرائيًّا متأنيًا يقارن المصادر ويوثق الناقلين ويحصر الأحكام بالمعنيين، غير أنهم صاروا أقدر من متابعيهم على المهاذرة.
** في زمن مضى كان قريبًا من مدينتنا واعظٌ طيب يتحدث على سجيته، وربما خرجت منه بعض الفتاوى الغريبة حتى صار مقصدًا لبعض الشباب الذين يُروِّحون عن أنفسهم بسماع نوادره، وربما سجلوها وأسمعوها بعضهم غير أنهم لم يتجاوزوا نصَّه إلى شخصه، ولم يعمموا طرائفه على مذهبه أو ناسه، ونحن اليوم نطير بمقولات فرديةٍ ممن يمثّل نفسه فنلوم أسرته وقبيلته ومنطقته وانتماءَه.
** هل يعقل أن تتحول اللغة إلى لغو من أجل قصيدة أو موعظة أو إشاعة؛ فيطير الوِلدانُ والشيبُ إثارةً واستثارةً ويملأُون صفحات وسائطهم بضعة أيام ثم تنضم إلى أراشيفَ سبقتها ضجت بالاتهامات والإسقاطات وتحل محلها أخرى، ولو وقفنا عند أول من نقلها لوجدنا فيه عللًا تمنع قبول تحليله وتدليله.
** والمفارقة أن من أيسر الأمور على من ولغ في إناء التكاذب الدورانَ إلى الخلف والتبرؤَ من الادعاء وكأن الأرض والعرض والإنسان والمكان مباحة له، بل مستباحة لا تستحق حتى ربع اعتذار.
** قل لي ما تكتب أقل لك من أنت.