د.فوزية أبو خالد
أتخيل أحيانا حتوفا كثيرة لنهايتي القريبة أو البعيدة بما يشاء الله
- معلقة جثتي على سدرة سوداء في ليلة محاق يكتمل.
- منحنية على الكتاب وجه الفجر كأم ترضع طفلا
- مسربلة من هامتي حتى أخمص أصابعي بأسلاك كهربائية مجروحة على حواجز شائكة.
- مستلقية على سرير حرير وعشب وكأني لم أصبح من النوم بعد
- مشربة بشرتي بضربة شمس أو متفحمة بصاعقة.
- أتخبط في دمائي على قارعة الطريق بطعنة مجهولة في الظهر أو الوجه.
- محاصرة بالمشارط ووجوه غريبة تجوس في جسدي بتشف مقنن.
- واقفة أحاضر أمام طالبات الجامعة كألف تتخذ موقعها من الأبجدية أسبق التاء المربوطة فتتقدمني الحاء والياء ويسدل الستار.
- مواجهة القبلة على المصلى وملائكة من نور لا أراها تحف روحي.
- مختلطة نتف لحمي بالأمواج والطحالب ونجوم البحر تنهش حبلي الشوكي الحيتان والجوارح.
- على متبر الولادة ألفظ آخر أنفاسي من قسوة آلام المخاض فيما تخرج قوة الأمل من أحشائي إلى الحياة إنسان جديد (بقدرة الله).
- مختنقة بما في الحنجرة من حبر أو ماء وفيما أحتار برعب ذواق أي المنايا تليق بهزيمة القلب للمرة الأخيرة.. فإنني في كل مرة لا أستطيع أن اختار غير تراب الرياض لحافا أخيرا.
الرياض هذه المحارة الصحراوية المنثورة في حنايا الروح لؤلؤ أسود وماس مذهب بالحنطة والرطب كصندوق المجوهرات المقلوب داخل السفينة النائمة من آلاف السنين على أعشاب البحر في أعماق الماء الأزرق السحيق.. ولا يزال يهلك دون مستحيل الضالة.. العشاق والقراصنة وطلاب العلم وقطاع الطرق والشعراء؟
تذوقت كل أصناف الخبز.. خبز القمح الأبيض.. خبز الحنطة الأسمر .. خبز الذرة المكسيكي الأصفر الخبز الفرنسي المتورد وخبر المنافي الأسود.. خبز الصعاليك المخبوز من مشتقات الشظف.. وخبز المنعمين المصنوع من نكهة الكيوي والكافيار والكاكو وخبز المعدمين المعجون بالعرق والدموع والمواويل الجارحة, ولا يزال مذاق «قرصان البر» وخبزة الجمر وحنيني ومحلي التمر والحب والقشيد والعصيد عالق بحواسي ما رمشت عيوني.
أحببت بعد الرياض عشرات المدن على مدى سبع قارات وكوكبين آخرين, سكنت مئات البيوت, استظليت آلاف الشجر، توسدت مالا يحصى من الحصى والحجارة، التحفت سبعة بحور, وتسلقت تسع فضاءات ودرت المدار عدة مرات وظلت الرياض حبي الأول والبيت الوحيد الذي لا أشعر بالانتماء إلى وطني إلا وأنا أغوص في رمالها القاسية كمسحوق زجاج تذروه الرياح بين المفاصل.
جربت أنواعا أخطئ في عدها من الخيبات والانكسارات الفتاكة، من الأفراح العابرة والمسرات الصغيرة من النجاح الباهر ومن الفشل المرير من الكبوات المهلكة، من الذكاء الوقاد ومن البلادة المملة، من المغامرات الفادحة ومن السعادة الصافية التي لا يفسدها الشعور بالإثم، ولكني لم أجد في كل تجارب عمري شيئاً يشبه نشوة أن أتصبح شروق شمسها الصحراوية الحارقة.
لم أجد في أي مكان من كمائن تجربتي وخبراتي وتجريبي شيئاً يقارب القسوة التي تنحت بها الأشواق أضلعي فيما لو اضطررت لفراق صوتها في دمي هسيس رملها في أعصابي رائحة عرفجها وسدرها في جدائلي، وكأني لا أسافر بعيداً عن الرياض إلا لأقيس نسبة هوائها الجاف الجارح في رئتي لأعود مسرعة ملتاعة تائبة قبل نفاذ الأوكسجين من الكرة الأرضية.
فهل يعرش نخيل الرياض الوشمي على قامتي بهذا الشكل الوحشي ويشتبك عسيبها بشبكيتي لأنها مسقط رأسي وموطن الآباء والأجداد.. أم أن لهذا العشق المبرح أسرارا أخرى؟!
ليس في حبي للرياض أسرار كبيرة و.. إن كذبت، فلا يزال فوران الحياة في أوردتي يغريني بمواراة الوجد، ومدارات الهوى والتستر على النصف الساحق من الكمين أو النصف الداكن من الذاكرة.
ليس لي إذن أن أسبق موتى ولا من حقي أن أتهور في فضح الهوى كله على طرقات ربما تكون مأهولة بالوشاة وهواة الشائعات والمتسلين بالنميمة السياسية .
إما أسراري الصغيرة وتجاربي المبرحة في هذا العشق الشخصي الذي لا تخص تبعاته غيري وتلك التفاصيل الرقيقة التي تضرم الرياض في ثيابي من أطراف شعري إلى أخمص روحي فربما أتحمل لوحدي مجازفة تسريب بعض شرارتها.
ماذا لي في الرياض لأبتلى بكل هذا الحب
ماذا ليس لي في الرياض لأستاهل أقل من عقوبة عشق هذه المدينة الواضحة الغامضة المتقشفة الباذخة العابثة المحافظة المتحدية السمتة المتسترة السافرة المنيعة والمنال كأرض أسطورية.
تربة الأحباب في مقبرة العود، الذين رحلوا بعد أن حبلوا الصحراء أحلاما حلال وحزنا زلالا ومطالات محرمة، أطياف طفولتي بحي الشميسي، والمربع، العطايف كقزح يكسوه اقتراب المساء, دكان أبي القديم في «المقيبرة « يفوح برائحة روح الورد والكادي والعرفج ودهن العود والكركم والمسك والعنبر والزنجبيل والبن حتى بعد أن ساواه القضض وتقادم العهد بالأرض.. جرعات الحزن والتباريح الأولي التي مهما تنجح السنوات في مد المسافات بيننا وبينها فإنها لا تنجح في محو ندوبها العميقة الخفية تحت ملامحنا أو الرد على أسئلتها الحراقة في العقل الباطن، أفواج الطلبة والطالبات من جامعة الملك سعود كنهر يغسل التراب بالمراد، تجاور أطلال الناصرية بمآلاتها المدقعة مع قصور الفاخرية بمجدها المندلع من أسوار تلامس السماء، احتقانات الحصبة وجدري الماء التي كانت تتفتح على أعوادنا الطرية كثمار توت برى محمرة وعزايم الزعفران وقراءة المطوع التي كنا نستشفي بها, رغوة كتاباتي المبكرة بمجلة اليمامة ورئيس تحريرها محمد الشدي، بيت عمي محمد بالبديعة على طول طلعة الرابية وبيت عمي عبدالعزيز المتنقل بين سلطانة والسويدي والمصيف، روائح حلى رمضان من القطايف والكنافة ينبع من الحلة التي كانت حلة العبيد فصارت حلة الأحرار ليصل إلى مشارف محل الكرامة بشارع البحر الأحمر بالملز في تقاطعه مع شارع جرير وشارع المتنبي وكأن الرياض تخشى من سرعة التحولات في أحياءها وملامحها فتحاول التحصن بأسماء الشعراء. الغبيرة والعود والغالة والخالدية والجرادية ليست أحياء بل حالة من حالات مد وجز النفط في عروق الرياض مثلها مثل خفوت واحتدامات الخرافة في جبابها القديمة ومياه سوانيها حيث كان الجن المسمايين بـ»السكن» جزء من سيكولوجية سكانها وعنصر من هندسة فضاءها الاجتماعي والشخصي وسلطة إضافية على سلطة البشر في تسيير حياة أهل الرياض مثلي وضبط العلاقات والتصرفات الاجتماعية.
ماذا ليس - لي - في الرياض ليتسنى لي أن أنسى التفاصيل والأسماء والطيوف والقسمات السمراء.
فليس من ملك أكثر من ملك من لا ملك لها إلا حب الوطن ؟؟