أقام مركز عبد الرحمن السديري الثقافي يومَيْ 25 و26 صفر 1438 بدار العلوم بالجوف منتدى بعنوان «المياه في المملكة.. الواقع والحلول»، شارك فيه عدد من المتخصصين والمسؤولين والمهتمين، وتناول بالطرح والنقاش بعض أهم المسائل المتصلة بهذا الشأن الحيوي جدًّا لهذه البلاد. وبينما اتفق المشاركون في المنتدى على أهمية هذا الموضوع، والخطورة التي يمثلها لمستقبل دولة كالمملكة العربية السعودية، حيث تقل مصادر المياه المتجددة، وتتزايد أعداد السكان، ويسود الإسراف في استهلاك المياه في كل المجالات، منها البلدية، والصناعية، والزراعية.. إلا أنهم بعد هذا توقفوا عند ضرورة الموازنة بين الأمن المائي والأمن الغذائي.
وفي رأي كاتب هذا المقال فإن في الحديث عن الأمن الغذائي خلطًا في الأوراق، وانصرافًا عن المسائل الأساس التي يلزم تسليط الضوء عليها، وابتعادًا عن الواقع المعاش؛ فالقضية الموازية في الأهمية للأمن المائي، التي قد لا يتحقق هذا الأمن دون معالجتها، هي الأمن الاجتماعي، لا الأمن الغذائي.
فمن ناحية أولى فالأمن الغذائي في بلد تقل فيه مصادر المياه المتجددة، وتتزايد فيه أعداد السكان بالقدر الذي يحدث فيه الآن، وتتضاءل فيه الثروات الريعية مع مرور الزمان، يبدو طرحًا من الخيال. وحتى أقرّب هذه الفكرة للقراء تأملوا ما كان يحدث في هذه البلاد قبل اكتشاف النفط فيها. وتأملوا أين سيكون موقعها من الأمن الغذائي مع مرور الوقت، ونضوب كثير من مصادر المياه الموجودة الآن.
ومن ناحية ثانية، هل نحن مهددون حقيقة في أمننا الغذائي؟ وهل هناك ما يشير إلى أن بإمكان دولة أن تحجب الغذاء عن دولة أخرى؟ الولايات المتحدة الأمريكية لم تتمكن من قطع الغذاء عن الاتحاد السوفييتي عندما منع الرئيس كارتر تصدير الحبوب من بلاده للاتحاد في عقد السبعينيات من القرن العشرين؛ فقد استعاض الاتحاد السوفييتي بشراء الحبوب من كندا ودول أخرى عن المنتج الأمريكي، ولم يصب الاتحاد بأذى من المنع الأمريكي. وذهب المنتج الأمريكي لمن كان يتزود بالمنتج الكندي. فإن كانت المملكة تخشى من حصار يفرض عليها، فيحول دون استيرادها للغذاء، فإن من يستطيع فرض مثل هذا الحصار يستطيع كذلك فرض حصار يحول دون أن تصل إليها المعدات وقطع الغيار اللازمة لها لاستمرار الزراعة فيها.
ومن ناحية ثالثة، فالمملكة ليست دولة من طبعها أن تخوض مغامرات خارجية، تهدد بتعرضها لمثل هذه التحديات. والعالم الخارجي ليس من دأبه، أو مصلحته، التضييق على الآخرين لمجرد الإضرار بهم. ومواجهة المستجدات الطارئة يمكن التحرز لها بتخزين الأساسيات التي تكفي لمدة يتفق على ضرورتها. وفي كل الأحوال، فواقع المملكة البيئي، والديموغرافي، والاقتصادي، سيفرض عليها، إن عاجلاً أم آجلاً، الاعتماد على الاستيراد لتأمين مستلزماتها من الغذاء من الخارج، أو هجرة بعض سكانها إليه، كما كان يفعل أسلافهم.
إنَّ المسائل الأساس التي تلزم مواجهتها حتى تتمكن المملكة من التعامل مع قضية المياه - كما قضاياها الكثر الأخرى العالقة - هي مسائل هيكلية مؤسساتية، واقتصادية، واجتماعية. وما لم تتصدَّ المملكة لهذه الأمور الهيكلية فهي ستبقى تدور في حلقة من الحلول الوقتية المفرغة، التي لا تعالج مشاكلها المزمنة، بل تزيدها تعقيدًا.
فكيف يمكن للمملكة أن تقيد الزراعة بالقدر اللازم لتحقيق ما يمكن أن نسميه أمنًا مائيًّا دون أن نلحق ضررًا بالغًا بقطاع كبير من المواطنين الذين ارتبطت حياتهم الآن بالزراعة، خاصة أن قدرًا كبيرًا من هذا الارتباط حدث بسبب تشجيع الدولة له، بل دعمها وتمويلها إياه، دون أن تقدم بديلاً لهؤلاء المواطنين، يغنيهم عن الزراعة؟
وكيف يمكن للمملكة أن تقدم هذا البديل دون أن تطور التعليم، وترفع الكفاءة الإنتاجية، وتجلب الاستثمار؛ فتتحول عن الاقتصاد الريعي الذي لا تزال تركن إليه؟ وكيف يكون ذلك دون مواجهة للمسائل الهيكلية سالفة الذكر؟
إن قضية الأمن المائي - كما قضايا المملكة المؤثرة الأخرى - قد تبقى عالقة لأمد قد يطول، كما بقيت حتى الآن، طالما استمرت بتناول الأمور من منطلق تجربتها الريعية القريبة، واختارت تجاهل الأساسيات التي لا مناص عن مواجهتها لإحداث نقلة نوعية في هذه القضايا العالقة.
- زياد بن عبدالرحمن السديري