د. حسن بن فهد الهويمل
يعيش عالمنا المتشظي صراعَ الهُويَّات:- العقديةِ، والحضاريةِ، والثقافيةِ. ومما يعمق الفرقة، ويصعد نبرة التنازع، افتقار المتصدرين لإدارة الصراع لضوابطه. والسلف من علمائنا الذين أخَافَهم حَسِيسُ الخِلاِف، لفتوا إلى شيءٍ من الأسباب.
ففي [إحياء علوم الدين] للغزالي قوله:-
[كِلْ - مِنَ الكَيْل - لِكُلِّ عـَبْدٍ بِمِعْيارِ عَقْلهِ، وَزِنْ له بِميزان فَهْمِه، حَتَّى تَسْلَم مِنْه، وَينْتَفِعَ بك. وإلا وقع الإنكار لتفاوت الِمْعيار] - ص1/ 112-
وخطابُ التكليف على ضوء ذلك ذو أبعاد دلالية، محكومة بسياقات، وأنساق، وظروف، وشروط، وملابسات، وعلل، ومقاصد، واستطاعة، وأهلية، وفهم.
ومالم يكن المبلِّغ على علم بقدرات المكلف: عقليًا، وبدنيًا، وظرفيًا، لايكون أهلًا للتبليغ. ومالم يكن على دراية بفقة الواقع، والتمكين، والأولويات، يكون ضرره أكبر من نفعه.
لقد تفرق الناس بسبب سوء الفهم، وسوء النوايا. و[لابن القيم] في كتابه القيم [إعلام الموقعين] مقولة غاية في الأهمية، ملخصها أن الإسلام يقوم على قَدَمَيْن: [صحة الفهم]، و[حسن القصد]. فالأول هبة من الله. والثاني مقتضى التقوى. وكم من عالم لاينازع في سعة علمه، يجهل الواقع، ولايحسن إنزال الحكم شطحت به معارفه، وأضلته مداركه.
فالنص عَصِيٌّ يَسْتبطن تناقضاته، ومقاصده التي قد لايتوفر كثيرٌ من المشتغلين بالأحكام على شيء منها.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - الرحيم بأمته. قال بحق من أفتوا بالنص:- قتلوه قتلهم الله. - أو كما قال -. وحَمَلةُ النصوصِ، وحَفَظَتـُها، قد لايستوعبون متطلبات الفتوى، وأهلية المفتي، وأحوال المستفتي.
وكل متداول لـ[الانتماء] مستنبط للحكم، ومُنْزِلٌ له. قال ابن مسعود:- [في آخر الزمان يكثر الخطباء، ويقل الفقهاء]، وفي الحديث:- [من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين].
والفقه ليس مجرد الفهم، إنه القدرة على إنزال الحكم المناسب للمحكوم، وللواقع، والمحقق للمقاصد.
إن هناك عِلْمًا، وفِقْهًا، وتأويلًا. فالعلم:- معرفة النص، ودلالته الوضعية المجردة من كل الملابسات. والفقه:- فهم المعنى المراد. والتأويل:- إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى.
إذًا هناك معرفةٌ تضاف إلى النص. وفهم يضاف إلى المعنى. وادراك يضاف إلى الحقيقة.
والمعرفة، والمعنى، والحقيقة مستويات ثلاثة تتحقق من خلالها الأهلية المطلقة. وكل هذه المستويات لايتوفر عليها إلا من يحسن إدارة المواقف، وسياسة الأوضاع. وآلة ذلك كله العقل الراجح، والفهم السليم.
إن هناك دلائلَ غير نصية أشار إلى بعضها [الشاطبي] في [موافقاته] من أهمها [السياق] بمفاهيمه المتعددة. فالسياق يكشف عن المراد، وإن لم يعتمد على الدلالة المعجمية.
فقوله تعالى:- {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} له دلالة معجمية غير مقصودة. فالله لايصف الكافر بالعزة، والكرم. وله دلالة سياقية، أو مجازية مقصودة، تقوم على التهكم.
فضوابط اللغة قد تخالف السياق. والسياق غالبًا ما يحدد المراد، دون الركون إلى المعنى المعجمي.
قَتَلة النصوص من يرتهنون أنفسهم للمعاني المعجمية، أو لدلالة الجُمل. وعلى ضوء ذلك فإن السياق ضد القراءة الابتسارية.
و[تاريخية النص] التي يَرْكن إليها [العلمانيون]، لها شطر من الصواب، ولكنه شطر دقيق. والآخذون به يجب أن يكونوا حذرين، متيقظين.
في ظل ماسبق من مراوغة اللغة، واستبطانها للإختلاف يكون [الانتماء] ضرورة حتمية لبني البشر. حتى غير المنتمي يوصف بـ[اللامنتمي].
ولأن [الانتماء] يقتضي الضديَّة، والتَّماس. وحضور السِّمتين [الضدية، والتماس] مدعاة للتمايز، والصدام، المؤدي للصراع الدموي الذي نشهد ويلاته.
والعقل، والعاطفة، والمعرفة، والفهم، تتنازع [إدارة الانتماء]، واستبداد أحدها مخل بالتوازن. ومن ثم لابد من تآزرها، وعدم تبادل المواقع.
وهنا يقوم دور العقل، والعاطفة، والمعرفة، والفهم في معالجة التجاذبات المؤدية إلى الصدام، والصراع.
والجنوح إلى الحوار، والتصالح، والتعايش، والتعاذر ليس على إطلاقه، إنه مرتهن بضوابط، تتسع، وتضيق وفق مقتضيات الأحوال.
والتنازع حول اكتساب السلطة، وصفة الأغلبية، وتفادي الانكماش في إطار الأقلية قد تصعد الخلاف.
العقل المجرب وحده من يحسن تحقيق [الانتماء]، وتحقيق [الهوية] دون مصادرة حق الآخر. وذلك بعض ماتناوله لقاء [التعايش المجتمعي] لتعزيز اللحمة الوطنية. في [مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني]. وهو ما يتطلع إليه الخيرون في ظل الظروف الراهنة بكل ماهي عليه من توتر، وتصعيد مُخِيف.