د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
.. أن تكون لنا رؤية اقتصادية تنظر لما بعد عقود أمر جميل، فالتخطيط أحد أهم أسس النجاح في العصر الحديث. فالاقتصاد عصب الحياة ولكن تحسين الحياة الاقتصادية للمواطن ليس هدفاً بحد ذاته وإنما الهدف الحقيقي هو إسعاد الإنسان، إسعاد المواطن. فقد ترتفع مؤشرات الوفرة الاقتصادية في مجتمع ما لكن مؤشرات الرضى والسعادة لا تواكب هذه الوفرة. ولعل الحكومة فطنت لهذا الأمر وأعلنت أيضا عن رؤية ترفيهية تواكب الرؤية الاقتصادية، ولكن توفر أدوات الترفيه قد لا يكون وحده كافيا لإسعاد المجتمع.
عوامل إسعاد المجتمع الرئيسة تنبع من تكافله وانسجامه وترابط مكوناته، وهذا يتطلب أحيانا رؤية خاصة بتطور نسيج المجتمع على المدى القصير والمتوسط لتواكب التغيرات الاقتصادية والمعرفية التي تطرأ عليه. وتتعرض المجتمعات لتغيرات مفاجئة بعيد الطفرات العلمية والاقتصادية تحدث هزات اجتماعية، فقد اجتاحت أوروبا في أواخر القرن العشرين حركة اجتماعية غيّرت من شكل مجتمعاتها بشكل جذري غير محسوب وخاصة في ألمانيا وفرنسا. وتعرضت أمريكا في أواخر ستينيات القرن الماضي لحركة مشابهة سميت بحركة الانفتاح الجنسي للشباب تزامنت مع احتجاجات واسعة ضد حرب فيتنام وظهور حركة «الهيبيز».
ونخطئ لو تصورنا أن مجتمعنا يختلف عن غيره من المجتمعات البشرية في صيرورته نحو التغير، فالتغير هو الثابت الوحيد في الحياة. والحياة اليوم غيرها تماما قبل أربعة أجيال. وغيّر تعليم المرأة مجتمعنا بشكل جذري، وكذلك البعثات التعليمية المكثفة في السبعينيات التي استمرت حتى تكثفت في عهد الملك عبدالله في برنامجه للابتعاث الوطني. كما أن السفر للخارج أصبح أمراً معتاداً للرجل والمرأة السعوديين. ولذا فمن غير الواقعي أن ننظر للمواطن والمواطنة بالنظرة ذاتها قبل أربعين أو خمسين عاما. فمجتمعنا تغيّر وبشكل جذري بحيث أصبح لدى الناس حياة مزدوجة، واحدة محافظة للداخل، وأخرى أكثر انفتاحاً للخارج. الأولى تجامل الأعراف الاجتماعية القوية وتخشى من التشويه والنبذ الاجتماعي، ومصدرها الخوف؛ والثانية أكثر انفتاحاً، تمارس في الخارج ابتداءً من مقعد الطائرة المغادرة لأجوائنا، وتنطلق من القناعة الحقيقة.
فالمجتمعات تتغير، وهذا هو ناموس الكون، ولا يمكن حتى ولو أردنا أن نفرض نمط حياة قديم جداً على مجتمع يعيش العالم كقرية واحدة، على مجتمع انفتحت عليه السماء بكافة وسائل الاتصال والتثقيف. وفرض ذلك ممكن أيضا لكنه ليس في صالح المجتمع ويولد الاحتقان والحساسيات والاكتئاب الاجتماعي، وهذا ملاحظ في تعاملات الأفراد وتصرفاتهم واتباعهم للأنظمة. نعم، نستطيع التعايش مع الاكتئاب المجتمعي، ونستطيع أيضًا أن ندعي أننا مجتمع طهراني يعيش بشكل مختلف عن بقية دول العالم، لكننا ندفع بكثير من الأمور لمزيد من الازدواجية، وندفع مقابل ذلك ثمناً اجتماعياً كبيراً يتجلى في الهروب من الواقع لمجتمعات بديلة ينشِئها الفرد، وخصوصاً الشاب، في مخيلته إما باللجوء للمخدرات، أو التطهر الزائد الذي يزهد في الدنيا ويحاول تغيير المجتمع بالقوة بدلاً من التكيف معه.
فعلينا أن ندرك أن مجتمعنا يتغير، وعلينا دراسة كافة مؤشرات هذا التغير بشكل علمي بحيث يمكننا تأطير وتوجيه التغير بدلاً من محاولة قمعه وإنكار وجوده. علينا أن نمنح الشباب الثقة والفرصة والأمل بدل القمع والتوجس. وعلينا الأخذ بيد الشباب، ذكوراً وإناثاً، ودراسة الصعوبات المادية وغير المادية التي تحول دون تكوينهم لأسر مستقرة بدلاً من الحياة المتأرجحة التي يعاني كثير منهم منها. علينا تثقيفهم وفق متغيرات رؤاهم وليس رؤانا التقليدية عن أسس العلاقات الزوجية. كما وعلينا دراسة ارتفاع أعداد الجرائم من قتل الأقارب إلى السرقات الصغيرة وتشخيص أسبابها ودوافعها للتقليل منها والقضاء عليها. كما علينا أن نعرف كيف نزيد درجة التقبل والتوائم بين الأجيال القديمة والجديدة، فلا يعقل أن نطالب أبناءنا بالعيش وفق رؤانا وهم ولدوا في زمان غير زماننا. فالكلفة الأمنية والصحية والاجتماعية لارتخاء وضعف النسيج الاجتماعي ضخمة جداً وتفوق بشكل كبير جداً كلفة التخطيط لبعض المتغيرات وتقبلها. فالمرأة التي تحمل شهادة عليا في مجال حيوي من مجالات الحياة هي غير تلك المرأة الأمية وشبه الأمية التي كانت مهمتها في الحياة المساهمة في الشئون المنزلية والإنجاب. ومن المسلمات الاجتماعية التي جربتها كافة المجتمعات، ونحن لا يمكن أن نكون استثناءً، هي أن توقيت التغيير في بعض الأنظمة الاجتماعية غاية في الأهمية، وأن التغييرات التي تأتي متأخرة تكون مشوهة. ولا يمكن بحال من الأحوال أن تتحقق رؤية اقتصادية مهما كان طموحها دونما تغييرات اجتماعية تواكبها. ومهما اختبأنا خلف مصطلحات نحتناها لنبرر جمودنا كالخصوصية، أو التقاليد، علينا أن نعرف أن الإنسان هو الإنسان، وأن طبائع الإنسان البشرية هي بقوة العوامل الحضارية أو ربما أقوى منها.