د. خيرية السقاف
كنت كلما عزمت المرور بمكاتبهن أكون على يقين بأنني سأجدها منكبّة على عملها, مستغرقة في تفاصيله, بينما هناك من سأجدهن يحتسين أكواب الشاي, ويتبادلن المشورة في أنواع الطبخ, ومقاديره, أو أحدث أنواع الجديد النسوي, وبالفعل يصدق توقعي فيتفرقن بسرعة, وتذهب الملاحظة مسارها الذي يعرفن!!..
مرت من السنوات التسع ونيف خمسٌ وهي دؤوبة لا تتوانى, لكن مسحات تعتري طلعتها, هي أنيقة حدّ الجمال في أبيض وأسود النورس البحري, وهي كما البحر في هدوئه, وثورة موجه..
عند هدوئها ترسم بأجمل الألوان محياها, وحين الانفعال تتحرك بسرعة, ترجف كفّاها, تتسارع الكلمات في مخارجها, وأعلم يقيناً أنّ خطأ ما في التنفيذ, أو التمكين قد اعترى مجرى سير العمل أمامها,
لم تكن مساحة المكتب لها وحدها, إذ كانت تشاركها فيه ثلاث أخريات كل منهن منوطة بمسؤولية..
كثيراً ما كنت أداعبها بإطفاء النور فتوجِّه نحو الباب نظراتها وهي تقول: «هذه أنتِ»..
وهذه أنت لم تكن بسرعة وقوف, وتوجه نحو مسؤولة, حيث ذوَّبتُ ما بيننا من رهبة المناصب.. فكلنا كنا في العمل فريق يداً بيد, وإنما واحدة منا في وجه «الطلقة, أو الطلاقة,
أي إما تتلقّى, أو تتوقَّى!!..
بعد السنوات تلك تسللت لشعرها خيوط من الفجر, وامتد بين عينيها علَمُ الكفاح, وساورها صمت أكثر, لكنها في النهار هنا, وفي بقية اليوم وليلته هناك..
كانت في العمر يافعة عن لمحات التقدم فيه, تلك التي استقرت بمهابة على وجهها, ..
كنتُ أعوِّل كثيراً على وعيها, ودقتها, وأمانتها, ونظامها, وتحملها, وسعة صدرها, وفهمها حين يحدث أن أكون خارج نطاق المعمعة في مكان آخر من العمل, ..
تلك الأيام كانت تدرس فكرة مواصلة الدراسات العليا, إلى أن وضعت قدميها في مناخها, كانت نموذجاً للطموح الواعي الطليق..
في اليوم الذي حدد لمناقشتها منجزها لدرجة الدكتوراه كنت أول من دعته لحضورها, وسابقتني للمكان فرحتي ودموعي..
وحين دعتني لاحقاً لمناسبة ما لابنها, الذي ليس لها سواه, الذي جعلته مفتاحاً لكل نجاح فلم يشغلها عن عمل, ولم يلهها عن مسؤولية, ولم يعقها عن تطور, ولا هي كذلك بل كانا معاً على قدم وساق.. وجدتها أجمل ما تكون, أبهى من يومها الذي بكت فيه, وأسعد من حزنها الذي رافقها, وأقوى من وهنها الذي خضب ملامحها يوماً, ..
بلسمها ليس مشارط الجراحين, ولا مركبات الصيادلة, ولا ابتكارات التجميليين بل ثمة «مشكاة فيها مصباح», تضيء من مكمن يقين ..
تذكّرتها وهي تردد مقولتها, كلما مررت بمكتبها, أو مرت بي محملة بالملفات للتوقيع, فأدعو لها فتردد, «لا عليك لن أتعب, هذا واجبي أتقاضى به معاشي كاملاً, وعليّ أن أتمه على أكمل وجه».. وكثيراً ما تؤكد أنها تود من الله البركة ليحفظ لها ابنها ويبارك فيه..
ليس كثيراً عليها اليوم أن تكون سيدة المنصة تناقش أطروحة لإحدى طالباتها!!..
ولا عليَّ أن أتباهى بسعادتي بها..
حين شاءت أن أكون أول الحاضرين, وحرصتُ أن أكون..
وإنني مفعمة أتباهى بالعصامية الوفية بهدف النموذج للراكضات, الطامحات في شتى الاتجاهات!!..