فإن تكن الأيَّام فرقن بيننا
وقد جمعتنا والأحبة دار
الإِنسان حينما يهم بالكتابة عن عزيز غال رحل إلى جوار ربه، فإنه يتوقف هُنيهة مُمرراً شريط أحلى أيَّام ذكرياته معه، كي يسهل جريان قلمه ليسطر ما يجيش به خاطره من ذكريات، ومواقف طريفة ليستعيد ويأنس بتذكر بعض محاسنه إذا رغب ذلك في أوقات فراغه وخلواته، وكأنه حاضر معه.. ولقد أحسن الشاعر حيث قال في مثل تلك المواقف على سبيل التوهم:
فحسبت نفسي حاضراً معكم ولا
تعجب إذا كان الغياب حضورا
إن القلوب إذا صفت مرآتها
وإن حجبت ترى بها منظورا
وهذا مثل حالي مع زميل الدراسة في دار التوحيد بالطائف الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن إسحاق آل الشيخ الذي انتقل إلى الدار الآخرة مأسوفاً على فراقه الساعة الخامسة بعد عصر يوم الاثنين 14 - 2 - 1438هـ بالمستشفى العسكري للقوات المسلحة بالرياض بعد معاناة طويلة مع المرض تاركاً ذكراً حسناً وسيرة معطرة بالثناء الجميل، حيث اتصل علي الشاب الأديب عبد الرحمن ابن أخيه عبد المحسن الساعة الثامنة صباح يوم الثلاثاء، معزياً لي فيه لعلمه بمكانته لديّ وحُبي له - تغمده الله بواسع رحمته، وكان هو الأول في مرافقته العلاجية بالولايات المتحدة الأمريكية، فهو ابن بار وغير مستغرب منه الوفاء، وكنت اتصل عليه وهو عنده هناك للاطمئنان على صحته، وعند عودته من تلك الديار نائية المحل، صِرتُ أزوره، وقد حزنت على فراقه حزناً شديداً، على بُعده عنا وعن أسرته ومحبيه.. ثم شخصتُ من حريملاء لأداء الصلاة عليه بجامع الملك خالد بأم الحمام بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 15 - 2 - 1438هـ، وقد أم المصلين عليه سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، وقد ولد وعاش في بيت علم وأدب.. ثم سافر إلى الحجاز فالتحق بمدرسة دار التوحيد بالطائف، وبعد تخرجه منها عام 1373 - 1374هـ واصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة حتى نال الشهادة العالية عام 1377هـ، ثم عين موجهاً إدارياً بوزارة المعارف حتى أنهى المدة النظامية متقاعداً، حميدة أيَّامه ولياليه، وكان طيب المعشر حلو الحديث، وظل التواصل بيني وبينه في حياته على فترات.. وآخر زياراتي له قُبيل وفاته بأربعة أيَّام.. بالمستشفى العسكري.. وكان في شبه غيبوبة.. فلما سمع صوتي وأحسّ بقربي حوله حرك جفن عينيه وبدأ على محياه الفرح، فدنوت منه مُسلماً ومقبلاً يده داعياً المولى له بالعافية والسعادة مُذكراً له بعض ذكرياتنا في دار التوحيد بالطائف، فأخذ يتمتم بصوت خافت جداً، وكأنه صوت مودع، فأخذت أنفث على صدره ورقبته داعيا المولى له باللطف والعافية، ثم انصرفت من عنده مكرراً نظرات عيني نحوه وبداخلي ما به من حزن عميق متمالكا دمعاتِ عيني:
خُذا الزاد يا عيني من نور وجهه
فما لكما فيه سوى اليوم منظرا
- تغمده المولى بواسع رحمته - ، وكان أول لقاء به في بداية عام 1371هـ بمدينة الطائف قادماً من الرياض ومن بلدي حريملاء للدراسة بدار التوحيد.. فمع مرور الأيَّام نمت الصداقة معه، ومع الكثير من الزملاء، وكان قبلي في الدراسة بعامين، فلما علم أن خطي وإملائي ليس بالجيد، لأني لم أدرس بالمرحلة الابتدائية، وإنما تلقيت مبادئ في العلم مشافهة لدى مشايخي الأجلاء فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم، وسماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بمسجده بحي دخنة، وعلى فضيلة رئيس المحكمة الكبرى بالرياض بعد صلاة المغرب بجامع الإمام تركي الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد - رحمهم الله رحمة واسعة وجزاهم عنا خير الجزاء - ، فأخذ الشيخ عبد اللطيف يعلمني الخط والإملاء هو والطالب - آنذاك - عبد العزيز بن محمد بن عبد المنعم حتى تحسن خطي نسبياً.. وكان معظم دفاتري بالسنة الأولى بالدار بخطوط بعض الزملاء مُساعدة لي - أكثر الله أمثالهم - فالتعاون والتآلف معروف بين طلاب دار التوحيد منذ تأسيسها عام 1364هـ بأمر جلالة الملك عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - .
ولي مع الشيخ عبد اللطيف ذكريات جميلة لا تغيب عن الذاكرة.. كُنا نقضي أوقات فراغنا معه ومع بعض الزملاء في رحلات بشعاب الطائف مثل شعيب «الخرار» فنقضيها في مزاولة بعض الأنشطة الرياضية كصعود الجبال، وفي المساجلات الشعرية، وبعض المشاهد التمثيلية الخفيفة ليلاً.. وأحياناً في شعيب «عشيرة» الواقع شمال الطائف، وكان الشيخ عبد اللطيف والشيخ محمد بن عبد الله آل الشيخ من هواة قنص الطيور والحباري، ومعهما الشيخ الزميل عبد العزيز بن عبد المحسن آل الشيخ - أبو صلاح - رحمهم الله جميعاً، وغيرهم من الزملاء فنجد متعة ومسرة في تلك الرحلات التي يتعذر عودها:
وليست عشيات الحمى برواجع
عليك، ولكن خّل عيناك تدمعا
ومن الذكريات الطريفة: كنّا نسير معاً في وادٍ غربي قروى فشاهد حبّات «شري» من شجيرات الحنظل فقال لي هذه مفيدة للأمراض الباطنية، وضد التُّخم، فناولني قطعة صغيرة جداً فمضغتها رغم شدة مرارتها، فظللت على اثرها طريح الفراش مدة يومين، ومن تلك العقود الطويلة إلى زمننا الحاضر وأنا أتمتع بصحة جيدة ولله الحمد، وعند حضوري من حريملاء إلى الرياض مررت على قصر والده الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق قبل وفاته - رحمه الله - بشهر تقريباً وبعد السلام عليه وسؤاله عن والدنا الشيخ العالم الجليل عبد الرحمن بن محمد الخريف قلت له بهذه العبارة ( أنا جاي شاكياً ولدك عبد اللطيف) حيث تطبب فيّ وأوشكت على الهلاك، فردَّ علي متبسماً : قليل الحنظل يُقال: إنه مفيد. وهذه من طرف الذكريات مع الزميل الحبيب الشيخ عبد اللطيف، مختتماً هذا المقال بهذا البيت:
يعز علي حين أدير عيني
أفتش في مكانك لا أراكا
رحم الله الصديق الوفي وأسكنه فسيح جناته وألهم إخوته وأخواته وأسرة آل الشيخ ومحبيه الصبر والسلوان.
عبد العزيز بن عبد الرحمن - الخريف - حريملاء