د.عبدالله مناع
بين (الدهشة).. وربما ما يشبه (الصدمة) عند البعض.. تلقي مثقفي العالم من الأدباء والشعراء والروائيين والمسرحيين والكتَّاب بصفة عامة: (إعلان) الأكاديمية السويدية للآداب والعلوم عن منحها (جائزة نوبل للآداب) هذا العام.. لـ(الموسيقي) والملحن، والشاعر الغنائي، والفنان التشكيلي الأمريكي: بوب ديلان (Bob Dylan).. وليس لأي روائي أو شاعر أو أديب من القارات الست، عبر (نقلة) نوعية غير مألوفة وغير متوقعة، تأتي بعد مائة وخمسة عشر عاماً.. من الغوص في عالم النصوص المقروءة والمكتوبة والمشاهدة.. إلى عالم النصوص المسموعة بأنغامها وأوتارها!!
ففي الوقت الذي كان فيه مثقفو العالم، والمحتمَلون منهم للفوز بـ(نوبل للآداب) يترقبون، وهم يصيخون السمع لمعرفة من هو الأديب أو الشاعر أو الروائي أو القاص أو الكاتب المسرحي الذي ستطلق (الأكاديمية السويدية) للآداب والعلوم اسمه.. ليكون حامل (نوبل) للآداب هذا العام.. بكل ما يعنيه حمل هذا (اللقب) من صخب، وضجيج بهيج، و(شهرة) شهابية عاصفة ستحط على حاملها، وتقلب حياته رأساً على عقب.. كما حدث للشاعر الإيطالي (سيلفاتور كوان يمودو)، الذي مُنحها عام 1960م.. فجعلت ليس دور النشر وحدها التي تخطب وده، وتتسابق عليه للفوز بإعادة طباعة أعماله.. باعتباره حامل (نوبل للآداب) بجائزتها المالية الضخمة.. بل وجعلت حتى (بواب) عمارته يطالبه بأن يجزل له (البقشيش) في صعوده وهبوطه.. باعتباره حامل (نوبل)!!
في وسط حالة الترقب هذه.. فوجئ الجميع بإعلان (الأكاديمية السويدية) بأن مرشحها لنيل (نوبل للآداب) هذا العام.. هو الموسيقي والمغني والشاعر الغنائي: (بوب ديلان)، وهي تقول في تبرير اختياره بـ(أنه ذو تأثير عميق في الموسيقى المعاصرة والشعر الأمريكي، حيث حملت أغانيه كثيراً من الدلالات السياسية والفلسفية والأدبية، وقد خلق تعبيرات شعرية جديدة ضمن التراث الغنائي الأمريكي).. ولذلك منحته الأكاديمية (جائزة نوبل للآداب هذا العام)..!؟
* * *
لقد كانت مشكلة جائزة نوبل الدائمة.. رغم العمل المؤسسي الذي قامت وتقوم عليه، والكفاءات العلمية والأدبية والسياسية التي تديرها.. هي في فرعي الجائزة: لـ(الآداب) ولـ(السلام).. أما بقية فروع جوائز نوبل الخمس.. وهي: (الفيزياء) و(الكيمياء) و(الطب).. فلم تلحق بهم أي مشكلة أو أية اعتراضات على مرشحيها أو الفائزين بها، فـ(الأكاديمية السويدية للعلوم).. تقوم بترشيح الفائزين بجوائزها في (الفيزياء) و(الكيمياء) كل عام، بينما يتولى (معهد كارولين) السويدي ترشيح الفائزين.. لنيل (نوبل للطب).
ورغم أن جائزتي (الآداب) و(السلام).. اللتان يدوران حولهما اللغط والاعتراضات في كثير من الأحيان لم تختلفا في آليات ترشيحهما عن بقية جوائز نوبل الخمس.. حيث تتولى الترشيح لأولاهما (الآداب): (الأكاديمية السويدية للعلوم والآداب).. بينما يتولى الترشيح لثانيتهما (السلام).. خمسة أعضاء منتخبين من (البرلمان النرويجي).. إلا أن لغط الاعتراضات ظل يلاحق أسماء المرشحين لنيلهما، بسبب حالة التسيس التي غشيت (الأكاديمية السويدية).. مبكراً، وظلت عليها عند تسمية (مرشحيها) لنيل (نوبل للآداب).. هي و(اللجنة) الخماسية البرلمانية النرويجية.. لتسمية مرشحيها لنيل (نوبل للسلام).. على السواء!؟ فقد كانت الأكاديمية السويدية.. تعادي أدباء اليسار الذين ينتمون إلى المعسكر الاشتراكي طوال سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي)، ولذلك لم يفز بـ(نوبل للآداب).. أديب يساري، بل فاز بها المنشقون على الاتحاد السوفييتي في زمنه.. كالأديب النكرة: (ميخائيل شولوخوف) أو الشاعر الإيطالي الباهت (كوزاريمودو) دون وجه حق في تجاوزه للروائي الإيطالي اليساري الأعظم (ألبرتو مورافيا) صاحب ثاني أعظم روايات الستينيات: (السأم).. مثلاً، وعندما أُحرجت (الأكاديمية السويدية) فرنسياً.. قدمت الروائي الفرنسي اليميني (ألبير كامو) لنيلها عام 1957م على (جان بول سارتر) الفيلسوف الوجودي، والروائي اليساري صاحب أول أعظم روايات الستينيات: (الغثيان)..؟ فكان أن رفضها عندما تم ترشيحه لنيلها عام 1964م، وكما فعل من قبل الأديب السوفييتي (بوريس باسترناك) عندما رفض ترشيحه لها عام 1958م عن روايته العظيمة (دكتور زيفاجو).. رداً على تجاوز (الأكاديمية السويدية) لأدباء اليسار والمعسكر الاشتراكي بصفة عامة!!
ولعل أوضح مثال على حالة (التسيس) التي وقعت فيها (الأكاديمية السويدية للعلوم والآداب).. في تسمية مرشحيها لنيل (نوبل للآداب)، هي.. عندما رشحت عام 1953م السياسي البريطاني الأشهر (السير ونستون تشرشل) لنيل (نوبل للآداب)!! حيث تقلد (ميدالياتها) وتسلم (دبلوماتها) و(مكافآتها) المالية المجزية في العاشر من ديسمبر من ذلك العام، وهو يوم الاحتفال بتسلم جوائز نوبل الذي يوافق ذكرى رحيل مؤسسها المهندس الكيميائي: (ألفريد برنارد نوبل)، الذي اكتشف (الديناميت).. وعندما علم بـ(الانفجارات) التي حدثت نتيجة التوسع في استخدامه في كثير من الأقطار، وذهب ضحيتها المئات الذين كان من بينهم شقيقه الأصغر توقف عن أبحاثه في الديناميت، وكرس جهوده العلمية في تطوير الصناعات البترولية في روسيا، وهي التي جنى منها أرباحاً طائلة.. وضعها في خدمة مؤسسته الإنسانية والعالمية (نوبل)، لتقدم من أرباحها كل عام.. أول جوائزها: (نوبل للسلام)، التي امتدت فيما بعد لتصبح خمس جوائز سنوية، تقدم كل عام لأولئك الذين قدموا أعمالاً متميزة فريدة لخدمة الإنسانية وسعادتها وسلامها.. بصرف النظر عن جنسياتهم أو دياناتهم..!!
* * *
على المستوى الشخصي.. لم أُدهش، ولم أُصدم بهذه (النقلة النوعية) في حياة جائزة (نوبل للآداب).. والتي امتدت بها لتشمل تكريم الموسيقيين والملحنين والمغنين والشعراء الغنائيين، والاحتفاء بهم وتقليدهم أرفع الأوسمة والجوائز كـ(نوبل للآداب).. بل وخالجتني مشاعر غير قليلة من (السعادة) لمعنى ومغزى هذا (التمدد) في الجائزة، والذي يحمل في طياته (اعترافاً) بدور هؤلاء الموسيقيين والملحنين والمغنين في بناء الوجدان المعرفي والإنساني.. والتعبير عنه وعن أحلامه في الحرية والسلام والسعادة لكل البشر.. إلا أن صدمتي الحقيقية كانت بمنحها للموسيقي والمغني الأمريكي بوب ديلان (Bob Dylan).. ليكون أول الفائزين بها من عالم الموسيقى والغناء..؟!
وإذا كنت لم أتعرف على أي من أعماله الموسيقية والغنائية من قبل.. إلا أنني صدمت بـ (تاريخه) الذي تسابقت الصحف على روايته واسترجاعه من الخمسة والسبعين عاماً التي عاشها.. بعد أن تم إعلان (الأكاديمية السويدية) عن ترشيحه لـ(نوبل للآداب)، إذ تصفه معظم تلك الصحف.. بأنه (متقلب الفكر والمعتقد)، وأنه بدأ (يهودياً متدينا، ثم غدا ملحداً، ثم اعتنق المسيحية.. ليعود بعدها إلى اليهودية الأرثوذكسية، إلا أنه أظهر عاطفة نحو الغلابة والمشردين والمضطهدين.. جعلته يقف ضد الأنظمة الطاغية في العالم، فيساند الثورة الفيتنامية والقضية الفلسطينية ويغني للمقاومة ولأطفال الحجارة أغنيته الشهيرة «الحجر المقذوف».. بل ويلبس الكوفية الفلسطينية). إلا أنه انقلب بعد ذلك لمساندة الطغيان والجرائم الإسرائيلية.. بل وزار تل أبيب وغنى فيها العام قبل الماضي -2014م- أغنيته الأخرى الشهيرة «فتوة الحي»، التي مجد فيها إسرائيل، وانتقد (العرب) الذين (يتهمونها كذباً وزوراً باحتلال أراضيهم، وهي بمفردها مسكينة لا تستطيع الهروب أو الركض إلى أي مكان، ولكن التاريخ يقول: إن كل من استعبدها زال كمصر وروما وبابل)!!
هكذا..!! وهو ما يعني -في النهاية- أن (الأكاديمية السويدية للعلوم والآداب).. ما تزال تعيش حالة التسيس التي غشيتها طوال سنوات القرن الماضي في (ترشيحاتها) والتي انتقلت معها إلى نقلتها (النوعية) الجديدة هذه، إذ لولا ذلك لما كان مرشحها لهذه (النقلة النوعية) في حياتها هو (بوب ديلان) الذي لا يخدم ترشيحه الأهداف الإنسانية النبيلة التي قامت عليها (مؤسسة نوبل) الإنسانية بجوائزها..!!
* * *
ورحم الله موسيقار الأجيال الأستاذ محمد عبدالوهاب، وسيدة الغناء العربي (أم كلثوم).. فقد كانا -لو امتد بهما العمر- الأحق فنياً وسياسياً وإنسانياً بجائزة أممية رفيعة كهذه!!
فهل يمكن ترشيح سفيرة النجوم، وجارة القمر (فيروز).. لـ(الأكاديمية السويدية).. لتعدل به ميزان (انحرافها)..؟!