اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
رحل تركي، طيَّب الله ثراه، تاركاً بصمته دامغة في حياتنا من خلال تلك الأعمال العظيمة الجليلة، التي كان يضطلع بها في صدق وإخلاص وصمت، أداءً لرسالته تجاه عقيدته ووطنه وأمتيه الإسلامية والعربية، بل الإنسانية حيثما كانت. فكلُّنا يعلم أن الراحل الكبير كان رجل دولة بامتياز، تشرَّف بالعمل في قواتنا المسلحة الباسلة، نائباً لوزير دفاعها، لنحو عقد من الزمان تقريباً؛ فساهم مع أخيه الراحل سلطان الخير، في ترسيخ عضد جيشنا الباسل عن طريق التعليم والتدريب والتجهيز على أعلى المستويات، حتى أصبح لدينا اليوم بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بفضل أولئك الرجال الوطنيين المخلصين الصادقين الصالحين، أمثال فقيدنا اليوم تركي بن عبد العزيز آل سعود، وغيره من تلك الكوكبة النيِّرة، التي تُعد الجندي الأول في منظومة دفاعنا الشجاعة القوية؛ بداية من الأمير منصور بن عبد العزيز آل سعود، أول وزير دفاع، حتى ولي ولي العهد، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، حارس عريننا اليوم، صاحب السمو الملكي، الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، الذي تسلَّم الراية اليوم، ويتحمل المسؤولية بكل جسارة وكفاءة واقتدار، بشهادة (عاصفة الحزم وإعادة الأمل) في ظروف بالغة الخطورة، شديدة التعقيد؛ تكالب فيها الأعداء والمتآمرون من كل حدبٍ وصوبٍ، مستهدفين نسيج أمة الإسلام وعقيدتها وسدى العروبة ولحمتها.
أقول، كلُّنا تقريباً عرف لفقيدنا الراحل الكبير، تركي الخير، جهده الصادق في الخدمة العامة في وزارة الدفاع وغيرها من المناصب، غير أن قِلَّة قليلة ربما هي التي تعرف الجانب الآخر في حياة هذا الرجل النادر النبيل، الذي اجتمعت فيه كل مكارم الرجال ومحامدهم، من شجاعة وإقدام ونبل وشهامة ومروءة منقطعة النظير، ووفاءٍ لعقيدته ولوطنه وشعبه وأمتيه العربية والإسلامية. فعرفه الجميع عطوفاً، شفوقاً، بارَّاً رحيماً، صاحب قلب كبير، وكفٍّ نديٍ سخيٍ، وإحساس مرهف بمعاناة المحرومين والمعسرين ومن تقطعت بهم السبل؛ فكان أطيب الطَّيبين وأكرم الأكرمين.
وكان بجانب هذا كله، متواضعاً، شديد الحياء، صادق النيَّة، مثقَّفاً، لبقاً، ذكيَّاً، حاضر البديهة، شديد الاعتزاز بعقيدته، منافحاً عنها في كل محفل، إذ كان يردِّد دائماً: (كل الحروب التي نراها اليوم، هدفها بكل أسف، محاربة الدِّين الإسلامي، ولهذا علينا نحن المسلمين، التمسك بتعاليم ديننا الحنيف، والذَّود عنه بأموالنا وأرواحنا ونفسنا، إذ لا عزَّة لنا بغير الإسلام). كما كان في الوقت نفسه، شديد الاعتزاز أيضاً بعروبته، ساعياً بكل ما استطاع لنهضة أمته, واستعادة مجدها الغابر ودورها الرِّيادي بين الأمم، فأكد في أكثر من مناسبة: (صحيح، نستطيع أن نقهر التخلف، ونحقق ما كان مستحيلاً على العرب والمسلمين في نظر البعض، إذ ليس هذا بكثير على شباب هذه البلاد، الذين يحظون بدعم القيادة المطلق ورعايتها، ويدركون مدى ثقة الأمة فيهم).
ولم تكن تلك مجرد شعارات برَّاقة لكسب الشهرة أو الظهور تحت الأضواء، التي كان تركي، طيَّب الله ثراه، أزهد الناس فيها، بشهادة كل من عرفه عن قرب، وخبر تواضعه وصدق نيَّته. بل كان مبدأً صادقاً راسخاً أصيلاً من قلب رجل كبير مسؤول، طالما حمل هموم عقيدته وأمته، ورسالة أسرته وشعبه حيثما ذهب.
ولأنه كان صاحب فكر متقدِّم، ورؤية حقيقية تستشرف المستقبل بصدق وعقل منفتح، أدرك تركي مبكِّراً أن العلم هو السبيل الوحيد لنهضة الأمة من كبوتها، واستيقاظها من سباتها، وانتباهها من غفلتها؛ فترأس المؤسسة العالمية لمساعدة الطلاب العرب، لدعم المتفوقين النابغين النابهين، الذين حالت ظروفهم المادية دون مواصلة تعليمهم، فانتشروا اليوم بالآلاف، إن لم يكن بالملايين، في كل البلدان العربية والإسلامية، يخدمون الأمة ويساهمون في قيادة سفينتها إلى بر الأمان.
وصحيح، كان للراحل الكبير، تركي الخير، أعمال خيرية اجتماعية ثقافية وحتى سياسية جليلة، تجل عن الحصر والوصف، ليس أقلَّها رئاسة سموِّه الكريم للاتحاد العالمي لمكافحة السرطان على مستوى الشرق الأوسط؛ نال عليها بكل جدارة واقتدار الأوسمة والميداليات، تقديراً لجهده الصادق في تخفيف العبء عن المحرومين والمحتاجين والمعسرين. إذ كانت داره العامرة ومجلسه المفتوح، مقصداً لأصحاب الحاجات من كل فئات المجتمع بمختلف مشاربهم، من علية القوم إلى رجال الفكر وأصحاب الرأي والكُتَّاب والأدباء والمثقفين والمؤرخين والشعراء والسياسيين؛ وقد تشرَّفت بارتياد مجلسه العامر أكثر من مرة، فما رأيته إلاَّ هاشاً باشاً مستبشراً بكل من يدخل عليه؛ فتراه يُحدِّث هذا، ويصغي إلى ذاك، ويسأل ثالثاً عن أحواله، لدرجة جعلت كل واحد من جلسائه يرى نفسه أنه أقرب الناس إليه، وأكثرهم حظوة باهتمامه وعطفه. بل العجيب الغريب، أن تلك البشاشة والبسمة والنفس الكريمة المطمئنة المنشرحة، كانت تغمرها السعادة كلما تقدم أحد الحاضرين بحاجة أو شفاعة له أو لغيره من المحتاجين. وأكثر من هذا: كان تركي، طيَّب الله ثراه، يُذَكِّر مودعيه: (ما عندك شيء يا فلان؟)، حتى يشجع الجميع على الإفصاح عمَّا في نفسه من حاجة.. شيمة الكبار دائماً. فكم شيَّد من بيت، وعالج من مريض، وقضى من دَيْنٍ، وفرَّج عن مكروب.
أجل، هكذا كان تركي عليه رحمة الله ورضوانه، رجلاً كبيراً شهماً نبيلاً، صاحب كفٍّ نديٍّ سخيٍّ، ونفس كريمة.. امتداداً لمسيرة الخير القاصدة السامية العظيمة، التي بدأها الإمام محمد بن سعود منذ ثلاثة قرون تقريباً؛ تماماً كبقية إخوته الكرام البررة، الذين يتسابقون في الخيرات، ويتنافسون في خدمة الأمة؛ تحقيقاً لظن والدهم المؤسس الرجل الصالح عبد العزيز آل سعود، طيَّب الله ثراه، وأمله فيهم. إذ عمل جاهداً لإعدادهم لهذا اليوم. فقد كان البطل الفذ عبد العزيز آل سعود، يؤمن يقيناً أن الخلود لله وحده سبحانه وتعالى، ولهذا هيّأ أبناءه وأعدهم خير إعداد لاستمرار الرسالة في خدمة العقيدة ورعاية الأمة وتحقيق خيرها ورفاهيتها، وإزالة الضر عنها، ومساعدة الناس حيثما كانوا. فقد أجمع كل من عاصره أو كتب عنه، على اهتمام عبد العزيز وزوجته الصالحة، حصة بنت أحمد السديري، على حسن تربية أبنائهما وإعدادهم ليكونوا قادة عن جدارة، لا عن وراثة فحسب. كما كانت تردِّد تلك المرأة الصالحة أم الفهد وإخوته، مشدِّدةٍ على معلمي أولادها بالاهتمام بتعليمهم والحزم معهم.
والحقيقة، يصعب على كل باحث، إن لم يكن يستحيل، أن يورد كل ما ذكره معاصرو البطل الفذ عبد العزيز آل سعود، ومن سطروا تاريخه، في اهتمامه بتربية أبنائه، وحرصه على إعدادهم لتحمل الأمانة واستمرار الرسالة من بعده. ولهذا لا أجد مناصاً من الاكتفاء هنا ببعض ما أورده بعض شعراء عصره، الذين أسرتهم بطولة عبد العزيز، وإخلاصه لعقيدته، وحرصه على مصلحة أمته، واهتمامه بوحدتها، واستمرار رسالتها الخالدة. إذ يقول الشاعر أحمد بن إبراهيم الغزَّاوي، الذي كان يُلَقِّب بـ (شاعر الملك عبد العزيز)، وقد سبق أن حدثتكم عنه في أكثر من مقال، وعن إعجابي بشعره الرصين. يقول الغزَّاوي مخاطباً الملك عبد العزيز:
علمتهم أن العروبة مهما
عضَّها الخطب فهي للخير قصد
كل شبلٍ أنجبته صار ليثاً
مخلباه دون العرينة سد
ويقول الشاعر محمد الرضا الخطيب، بمناسبة تسمية الملك عبدالعزيز ابنه سعوداً وليَّاً للعهد:
عقدت على الشبل الكريم ولاية
لعهدك قد شاء الإله انعقادها
ولاية حق عزَّز الله قدرها
وشد على حقو السعود نجادها
إلى الحشر فيكم لا تزال وراثة
نؤمل من باري الوجود امتدادها
ويقول الشاعر محمد بن إبراهيم المراكشي:
من آل سعود حيث جرَّت رداءها المعالي
وحيث الطفل يقتعد الشعرى
وحيث النَّدى والجود أدنى صفاتهم
وحيث يفر الموت من بأسهم ذعرا
إذا درجت فتيانهم وكهولهم
تريك بدور الأرض والأنجم الزهرا
أفخر ملوك الأرض لا زلت فخرهم
ويكفيهم أن لا تزال لهم فخرا
ويقول الشاعر أحمد أبو النَّجار:
وبينهم آل السعود كأنهم
كواكب هديً أو عزائم ضيغم
على رأسهم عبد العزيز فديته
محا الظلم حتى خافه كل ظالم
ويقول الشاعر عبيد مدني، مخاطباً الملك عبد العزيز:
وقر بطلعة (الأمراء) عيناً
وطب نفساً بهم فلتلك طابا
فقد أنجبتهم صيداً عظاماً
فما عرفوا سوى العلياء دابا
فلا برحوا كما نرجو شموساً
تضيء ولا نرى لهم غياب
ويقول الشاعر سليم اليعقوبي:
(أبناؤه) مثله بأساً وليس لهم
نِدُّ إذا ما أثاروا الأينق الرسما
***
هم الأكارم في دِيْنٍ وفي أدبٍ
غض وللأدب الموهوب من كرما
هم الألي كأبيهم في سياسته
إن يبتغوا الحرب أو إن يبتغوا السِّلما
ويقول الشاعر بدوي حسين صقر، مخاطباً الملك عبد العزيز:
فأنتم الشمس والأشبال حولكم
بدور تم سناهم غير محدود
ويقول الشاعر عبد الله أحمد شطا:
فعش عزيزاً بقوم أنت تحرسهم
والله من فوقهم ترعاك عيناه
وعاش حولك أنجالٌ أشاوسة
قد أكملتهم مزايا المجد مذ فاهوا
ويقول الشاعر مصطفى السَّكران:
دمت يا سيد الملوك بعزٍّ
في بنيك الأشبال خير البنينا
ويقول الشاعر حسن عبد الله القرشي:
أشبالك الغُر الكرام وكلهم
سمح الخصال مناضل مقدام
نهلوا خلائقك النِّضار وحسبهم
إن المليك لهم أبٌ وإمام
ويقول الشاعر محمد بن بليهد:
أبناء ذروة هذا الملك قد فرعوا
سنامه بسنان غير متهم
قاموا على نور حق يستضاء به
كطالع البدر يجلو غيهب الظلم
أعراقكم يا بني عبد العزيز إلى
عبدالعزيز ومن أجداده القدم
ويقول الشاعر محمود صعب:
فيهم وعنهم سطور المجد تقرؤها
في صفحة اليوم أو في صفحة القدم
هذي مناقبهم كالفجر طلعتها
هذي أرومتهم بأسٌ على كرم
لا يهرم المجد ترعاه ضراغمه
وليس يخمد بين البيض والدهم
ويقول الشاعر يوسف أبو عوَّاد:
أبناؤه الشمُّ الكرام أعلام
حازوا الأصالة والعرفان والنُّبلا
كم معدمٍ يدعو لهم بعافية
إن نام أو قام أو إن صام أو صلَّى
يعطون قبل السؤال ذاك طبعهمو
إن قدَّم الناس قشَّاً، قدَّموا السَّبَلا
لأمة الإسلام فجَّروا عيناً
من السَّخاء تغطي السَّهل والجبلا
ما ضار في صلة الأرحام لوَّم
هذي الشريعة لا نرضى لها بدلا
وأختم هذه الفقرة بدرر لشيخ الشعراء، بولس سلامة، شاعر (ملحمة عيد الرياض) إذ يقول عن الملك عبد العزيز:
مُنشأً وُلْدَه على خشية الله
وخلق كصفحة الهندواني
عالماً أنه يربي ملوكاً
لغدٍ واسعٍ جليل الأماني
***
من يربي للمكرمات نخيلاً
لن يرى بينه حقير الزؤان
أنت فتحت سمعهم منذ كانوا
بعدُ في نضرة الغصون اللّدان
لحديث الأبطال من كل عصرٍ
فاستطابوا موارد الشجعان
قبسوا منك في العرين دروساً
ونموا في منابت المرَّان
***
أنت لقَّنتهم بطولة أعوامٍ
فأوجزتها ببضع ثوانٍ
يقظة في الوغى وجأشٌ صليبٌ
وسدادٌ في الكرّ والحولان
وذيادٌ عن الكرامة والحق
وبذل الأرواح للأوطان
أنت أعددتهم ليومٍ عظيمٍ
شاحذاً من مناسر العقبان
***
قطفوا النَّصر مبكرين فكانوا
قادة حيثما التقى جمعان
وصحيح، الاستشهاد بما جادت به قريحة الشعراء في التزام أبناء عبد العزيز الغُر الميامين، نهج والدهم وحرصهم على اقتفاء أثره والسير على خطاه، يكاد لا يأذن بنهاية، غير أنني أكتفي هنا بما أوردت.
أوفى من الوفاء:
حدثتكم كثيراً عن وفاء سيدي الوالد، قائد سفينتنا اليوم، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله ورعاه وسدَّد على طريق الخير والنَّصر خطاه. مؤكداً أن ذاكرة الجميع تختزن مئات الصور، إن لم يكن آلافاً، عن وفاء هذا الرجل النبيل فينا؛ مما حدا بالراحل الكبير سلطان الخير، أن يصفه بـ (سمو الوفاء، ووفاء السمو). ولم يجد محدثكم وصفاً لوفاء قائدنا سلمان الذي حيَّر الوفاء وأدهشه، غير (أوفى من الوفاء). وأكتفي اليوم بصورتين فقط من صور وفاء سلمان، التي لا أقول إن الصورة الواحدة منها تغني عن ألف كلمة كما يقولون، بل عن مجلد كامل، أو قل حتى عن مجلدات؛ فمقامه الكريم موسوعة وفاء تامة كاملة شاملة.
الصورة الأولى
بالطبع، شاهد كل من تابع مراسم تشييع فقيدنا الكبير تركي، كفُّ الخير النَّديِّ السَّخيِّ، والدنا سلمان الوفاء وهو يكفكف دمعه الهتَّان، حزناً على رحيل شقيقه توأم روحه، الذي كان صديقاً مخلصاً، وعضداً قوياً، ومستشاراً أميناً، وسنداً منيعاً لاستمرار رسالة عبد العزيز، قبل أن يكون أخاً شقيقاً. فبقدر ما خبرنا عزم سلمان وحزمه وشجاعته وإقدامه في الحق، وعدم تردده في اتخاذ القرارات الحاسمة في اللحظة الصعبة، شهدنا أيضاً رقَّة قلبه وصدق عاطفته بأسرته وعشيرته وشعبه وأمته، فلم يمنعه انشغاله برحيل رجل كبير مثل تركي، الذي كان مجموعة إنسانية متكاملة بشهادة كل من عرفه، واستقبال المعزِّين، من عزاء المكلومين مثله من أبناء شعبه ومواساتهم، وتهنئة البعض، وشكر آخرين وتقديرهم على إخلاصهم وتفانيهم؛ بل مواصلة عمله في خدمة الأمة، إذ شاهدناه كلنا في اليوم التالي لرحيل أخيه، يرأس جلسة مجلس الوزراء.. فللَّه دره من رجل أُمَّةٍ، يحمل عبئاً تنوء به العصبة من أولي القوة، بكل عزم وحزم وثقة وثبات. فأصبح اليوم فينا بفضل الله وتوفيقه، ثم بقوة عزمه وثقته في ربه، وقلبه الكبير الذي يسع الكون، عوناً لنا جميعاً في الملمات؛ فلا يكاد أحدنا يفجع بمصيبة، إلاَّ وجد سلمان إلى جواره أول المواسين، يشد من أزره، وتفعل كلماته العطوفة فعلها في قلبه، فيستمد منه الصبر والثبات. وإن اعترضت سبيل أحدنا شدَّة، أسرع سلمان لنجدته. وإن استغاث ضعيف أو مظلوم، هبَّ سلمان مسرعاً لإغاثته وإنصافه، ولو كان على نفسه أو أحد أفراد أسرته، كما أكد مراراً على الملأ. وإن شكا مريضنا، كان سلمان أول الزائرين الحريصين على توفير كل سبل العلاج والراحة له. وإن دمعت عينا يتيم، كان سلمان أول السابقين لمسحها وتحويلها لابتسامة مشرقة، لا تعرف الاستسلام واليأس. وإن ابتسمت الدنيا في وجه أحدنا، طرب سلمان فرحاً له، وهبَّ لتهنئته والدعاء له بخير.. هو هو، سلمان الذي عرفه الجميع من زمان، في الحكم كما كان في الإمارة، لم يغيره منصب ولا جاه أو سلطان، بل المناصب به تزدان؛ لأنه قائد صاحب رسالة سامية عظيمة.
الصورة الثانية
تدركون جميعاً أن كل صورة من صور وفاء سلمان، وما أكثرها وأشدها تفرُّداً، أعجب من الأخرى وأكثر دهشة. فقد رأينا مقامه السَّامي الكريم في المناسبة نفسها، يوم وداع تركي، كفُّ الخير النَّديِّ السَّخيِّ، يتخلى عن كل الأعراف والتشريفات الرسمية والألقاب التي لا يأبه سلمان لها، شأنه في ذلك شأن والده المؤسس، البطل الفذ عبد العزيز آل سعود، وهو محقٌ؛ فالألقاب به تزدان ولا تزيده شيئاً؛ ويكفيه فخراً أنه خادم الحرمين الشريفين، إذ ليس في الدنيا لقبٌ أشرف من هذا وأعظم. أقول، رأينا والدنا سلمان يتخلى عن مكانته السَّامية بيننا، قائداً لنا، وأعلى سلطة في بلادنا، ليصبح مثله مثل أي واحد منَّا في أداء دوره الاجتماعي. فينحني، وهو الملك، مقبِّلاً يد أخيه الأكبر الكريمة، الأمير بندر بن عبد العزيز آل سعود، معزِّياً في فقيد الجميع الراحل، ومواسياً ومسلِّماً.
وصحيح، لم تكن تلك أول صورة مدهشة لوفاء سلمان الذي أخجل الوفاء. فقد سبق أن شاهدنا مئات الصور، إن لم يكن آلافاً، لوفاء تقاصر دونه كل ما عرفه البشر من وفاء، سواء مع أفراد أسرته أو كافة أبناء شعبه أو حتى مع المقيمين وعامة الناس أينما كانوا. وقد سبق لمحدثكم أن تشرَّف بوصف بعض تلك الصور الفريدة الرائعة، ومحاولة ترجمتها إلى كلمات، عرفاناً وامتناناً لهذا الرجل الاستثنائي حقَّاً، الذي أدهش الوفاء وحيَّره.
والحقيقة، مهما استرسل الإنسان واستطرد في وصف وفاء سلمان، فلن يسعفه البيان، ولن يوفيه حقَّه، أو قل نزراً يسيراً من كثير حقِّه علينا. ولهذا يترجل قلمي المتواضع هنا، تاركاً المجال لقريحة الشعراء، علَّها تكون أفصح لساناً وأوضح بياناً في العرفان والامتنان لوالدنا سلمان، الذي يفعل كل هذا سجيَّة خالصة، ويرى أنه مجرد حقٍ مستحق للأمة، مع عظمته وتفرُّده، دون منَّة أو حتى انتظاراً لشكر كاتب أو مديح ناظم؛ فهي رسالة نذر نفسه الكريمة من أجلها، يستمتع القائد الكبير بأدائها ويفرح، أداءً للأمانة واستمراراً لمسيرة هذه الأمة الظَّافرة أبداً إن شاء الله، طمعاً في الثواب عند من لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
يقول الشاعر سهل بن بندر المقاطي:
أبو فهد راع المكارم والإحسان
مواقفه حبر القلم ما حصرها
***
سلمان له وقفة مع أخوه سلطان
يضرب بها الأمثال، كلاًّ ذكرها
محداً فعل فعله على طول الأزمان
بحق الأخوة يضرب أروع صورها
سلمان ينبوع الكرم عالي الشان
مدت يمينه تُغْني اللي حضرها
ويقول الشاعر عبد العزيز بن سعود البليهد، مخاطباً قائدنا سلمان:
يا ألف إنسان بقلبك جُمِّعوا
يا فيض جود للنَّدى مقصودا
ويقول الشاعر راشد بن جعيثن:
أبو فهد روح الوفا والمواجيب
سر الغلا له لهجة قواد ولسان
ما شفت كل الشعب عنده محاضيب
ومن جا ولد له قال: سمُّوه سلمان
ويقول الشاعر نايف المريخي:
تلمس ظروف الناس وتزاور المرضان
تعزي هل الميت وتقضي ثقيل الدَّيْن
ويقول الشاعر عبد الله السَّلوم، رحمه الله:
أوفى من الوافين، ذكره يناديك
كالشمس يجلي نورها كل حالك
ويقول الشاعر فهد المرشدي:
الوفا يا بو فهد طبعك وللمحتاج عون
دايم وجهك بشوش ودايم لشعبك نفيع
ويقول الشاعر محمد الذيابي:
سلام الله على راع الوفا والطيب والماجوب
ذرا اللي لن حداهم وقتهم جوه وتذروبه
أوجها هجوس من الضماير رايحات صوب
لسلمان الوفا وأهني من هو يتجه صوبه
ويقول الشاعر محمد الشيباني:
الوفا ورثك من اللي له الفردوس دور
بأمر إله الكون محي رميمات العظام
ويقول الشاعر سعيد الذيابي:
حُيِّيت يا رجل الوفا والشهامة
وسلمت يا سلمان ريف المراكيب
يا اللي عليك من التواضع علامة
لزيارة المرضان واللي مصاويب
ويقول الشاعر سعيد سيف القحطاني:
سلمان لك منهج ومبدأ وسيرة
قمَّة وفا ما فيك شك ولا ريب
وأختم هنا ببيتين من قصيدة طويلة لأخي الشاعر الدكتور عبد الله بن ثاني، إذ يقول مخاطباً قائدنا سلمان:
يا سيدي، أنظر سِفْر مجدك خالداً
إن القلوب إذا رأتك اهتزت
للمكرمات وهبت كل فضيلةٍ
كفُّ الكرام بجودها قد مُدَّت
تلك إذن لمحة سريعة لتلك الصور النادرة التي يرسِّخها قائدنا سلمان، ذاكرة الوطن قائد الأمة في مخيلتنا، لتظل نبراساً لنا نهتدي بضوئه في دروب الحياة التي تكاد تستحيل اليوم في هذه الظروف الاستثنائية، لو لا وفاء بطل استثنائي فذ مثل سلمان، حفظه الله لنا ومتَّعه بالصحة والعافية، وجزاه عنَّا كل خير.
وختاماً، لا أملك إلاَّ الدعاء الصادق من أعماق قلبي، مع أخي البدر، مهندس الكلمة، الشاعر المرهف الحس؛ لفقيدنا الراحل تركي، أغلى المعازيب، الذي بكته الدموع السواكيب:
يرحمك ربٍّ يعلم السِّر والغيب
ويقبل حسن خلقك ويقبل صلاتك