قاسم حول
بسبب الأحداث السياسية والأمنية التي عصفت بالمنطقة العربية، تراجع تيار السينما التجارية، عندما صارت الناس تعزف عن الخروج ليلاً والسهر في صالات السينما وصارت الناس تفضل الركون للمنزل لمشاهدة القنوات التلفزيونية لا سيما تلك التي توفر لهم مجموعة من القنوات المتخصصة بأفلام الأطفال والأفلام العالمية الكلاسيكية، والأفلام المعاصرة إضافة إلى قنوات الطبخ والرياضة والرقص على الجليد.. فيوفر رب الأسرة شاشة عريضة يعززها بصوت مجسم.. وبسبب هذه المرحلة لم يعد المنتج والممول قادراً على إنفاق المال لأن شباك التذاكر لا يحقق ولا حتى عشرة بالمائة من مبلغ الميزانية التي أنفقها على إنتاج الفيلم، يضاف إلى ذلك الطريقة العبقرية لمافيات الأفلام التي يرى المنتج فلمه على أرصفة الشوارع قبل أن يدخل صالة السينما!
بهذا السبب تراجعت السينما التجارية وسينما شباك التذاكر.. وأنا هنا أتحدث عن السينما العربية، لأن السينما الأمريكية على سبيل المثال تعيد للمنتج أضعافاً مضاعفة لميزانيته، التي تخضع لدراسات خبراء في علم النفس وعلم الاقتصاد لمعرفة متطلبات الجمهور وحاجة السوق لهذا النوع من الأفلام أو تلك، لا سيما وأن الجمهور وبسبب عدم وجود مشاكل أمنية كما يحصل عندنا في منطقة الشرق الأوسط، والناس باتت تحتاج لممارسة حريتها والخروج من جدران البيوت.. فحتى لو أصبح الفيلم بحوزة المافيات أو بحوزة اليوتيوب بسبب طرائق السرقات، فإن الجمهور يريد أن يجلس في صالة سينما يشاهد الفيلم في الظلام على شاشة بيضاء عريضة وبالصوت المجسم.
من هنا فإن المنتج السينمائي العربي قد انسحب من السوق السينمائية، وأصبح المخرج يبحث عن وسائل إنتاج جديدة ويبحث عن أكثر المهرجانات السينمائية شهرة وحضوراً للنقاد وكتّاب الصحافة كي يجد نفسه في أوساط الثقافة السينمائية.
بلدان المغرب العربي وحتى الآن، لا تزال تقدم الدعم للمخرجين دعماً سينمائياً يغطي الكلفة الإنتاجية وتوفر لهم فرصة العمل وتشتري منهم نسخة من الفيلم إلى المكاتب السينمائية «السينماتيك» ليحتفظوا بالذاكرة الثقافية السينمائية. من هنا تبرز سينما عربية جديدة تعتمد الإمكانات الذاتية من الكاميرات وأجهزة الصوت وبرامج الحاسوب في المونتاج.ز ولعل المهرجانات السينمائية هي البديل عن السوق السينمائية.
يعيش في بلدان أوربا وأمريكا عدد غير قليل من مصوري السينما ومهندسي الصوت وفنيي المونتاج، إضافة إلى عدد غير قليل من المخرجين السينمائيين.. وإلى جانبهم يقيم جمهور كبير من أبناء بلدانهم ولهم مشاكلهم الاجتماعية والسياسية الذين يشكّل وجودهم مادة للسينما يمكن أن تشكل بديلاً نسبياً عن السينما في بلدانهم. وبشكل خاص حين نعرف تقاطعهم سياسياً واجتماعياً مع السلطات السياسية في بلدانهم.
المخرج السينمائي «كيا عزيز» وهو مخرج كوردي، مثله مثل الكثيرين الذين يعترضون على طبيعة السياسة الكوردية فتغرّب فترة طويلة في الأرجنتين، وهناك أخرج الكثير من الأفلام السينمائية، ومن هذه الأفلام «الكرسي، والرغيف، والهوية، والشحاذ» ثم أخرج في أورغواي فيلم «يعيش سيلفا» وفيلماً آخر في السويد بعنوان لا أزال غريباً وفيلم «لم أفقد شيئاً.. وقبل أيام أكمل فيلمه الجميل الجديد «تاكسي أناهيت».
«أناهيت» اسم لامرأة أرمنية، تمتلك شركة لسيارات التاكسي في هولندا، وقد اشتغل عنها شخص أرمني هجر بلاده أرمينيا حين كانت ضمن منظومة الاتحاد السوفيتي السابق. كان هذا المهاجر فناناً قد درس المسرح والتمثيل، وكان يطمح أن يكون نجماً سينمائياً، لكنه لم يتمكن من تحقيق حلمه هذا فهاجر تاركاً أرمينيا، وقدم طلب اللجوء السياسي إلى هولندا.. وصار يعمل سائق تاكسي عند صاحبة شركة التاكسيات «أناهيت» التي هي من أصول أرمنية. يقف ويسهر الليل ويبقى يعمل حتى الفجر ينقل السهرانين والعائدين ليلاً من الملاهي الليلية ويعود متعباً إلى داره. لا تغريه الملذات ولا يخون ضميره تحت أية ضغوطات حياتية. يحاول أن يجمع مبلغاً يساعد بها أمه في مقاومة عاتيات الدهر. وذات ليلة صعد معه في السيارة رجل هولندي كان عائداً من كازينو القمار، وكان قد ربح مبلغاً في الروليت. وصار يحاوره كأي زبون يصعد في سيارة التاكسي وكان السائق الأرمني يجيب بجمل مقتضبة، وسأله عن حياته فأوضح له أنه فنان درس المسرح والتمثيل ولكن العيش يتطلب أن يعمل سائق تاكسي، فتعاطف الرجل الهولندي مع مشاعره وأوضح له أن أخته أيضاً تحلم بالتمثيل والسينما وهي لا تستطيع أن تدفع إيجار شقتها. كان الحديث مثيراً والممثلون من محترفي التمثيل في روسيا وفي هولندا، فقد أدوا أدوارهم بجدارة تثير الانتباه. أداء مقنع وحقيقي يقف وراءه ممثلون جاهزون ومخرج مبدع ومتمكن.
عندما تصل السيارة إلى عنوان المنزل يكون الزبون الهولندي قد نام في السيارة فيوقظه سائق التاكسي، ويشير له إلى عنوان المنزل. يمد الزبون يده إلى جيبه ويعطيه مائة يورو فيما أجرة التاكسي عشرون يورو. يقول له أن يحتفظ بالباقي وينصحه أن يلعب به القمار في الكازينو كي يضاعف المبلغ مثل ما حصل معه وربح كمية كبيرة من النقود. السائق لا يبدي اهتماماً لما قال له وغادره داخلاً البناية التي يسكنها. ويغادره السائق. وبعد حين يرى محفظة الزبون وقد سقطت تحت كرسي السيارة. فأخذ المحفظة التي نراها ممتلئة بما حققه من ربح في الكازينو. وعاد نحو البناية التي يسكنها، وهو لا يعرف في أية شقة يسكن. أو ربما عرف العنوان خلال بطاقته في المحفظة. المخرج «كيا عزيز» لا يخبرنا عن التفاصيل، لكننا نراه يضغط على جرس الباب ويلح في الضغط على الجرس لكن صاحب الشقة لا يفتح الباب ويخشى السائق أن يكون العنوان هو غير عنوان الزبون. يعود السائق ويبقى ينتظر قرب البناية صباحاً ومساء عسى أن يراه داخلاً أو خارجاً من البناية ولكن دون جدوى. أيام وأيام وهو يعاني من وجود المحفظة بحوزته.. وأخيراً يقف قرب أحد المصارف ويدخل ثم يخرج بعد حين في إشارة إلى أنه أدخل المبلغ في حسابه. لا ندري وليس صحيحاً أن ندري فيما إذا وضع المبلغ في الحساب حتى لا يضيع منه منتظراً اللحظة التي يعثر فيها على صاحب المحفظة، أو أنه قرر أن يحتفظ بالمبلغ لحسابه ويساعد أهله الذين تركهم في العوز، لكنه يظل وهو يسوق يضرب على مقود السيارة ويبكي من معاناة وقع فيها وصراع بين الضمير والمحاولة لإعادة المبلغ إلى صاحبه، كان السائق يشعرنا بأن ثمة ظلاً في السيارة يراقبه وثمة ظلاً دخل معه إلى المصرف وثمة ظلاً راقبه وهو يصعد البناية.
يقال «الموضوعات مرمية على الأرصفة، ولكن كيف تتناولها» المخرج «كيا عزيز» عرف كيف يتناولها. هو موضوع ينتصر للغرباء في العالم، للمهاجرين المتهمين باللصوصية والعيش على حساب الآخر في أوربا وأمريكا. والغرباء الذين هجروا الاتحاد السوفياتي السابق بحثاً عن الحرية والإبداع.
كل المهاجرين العرب وغير العرب، جاءوا يحلمون بحياة سعيدة لمجتمعات أهلها غير سعداء بالمعنى العالي للسعادة وغير أحرار بالمعنى العالي للحرية. لقد اختصر المخرج «كيا عزيز» حكاية الغربة الجغرافية والغربة الوجودية في شخصيتين «الغريب» و»ابن الدار» جمعهم في سيارة تاكسي وشدنا من خلال الزوايا التي التقطها ومن خلال الإنارة التي وزعها داخل سيارة التاكسي وإنارة الشوارع ليلاً. أنتج المخرج «كيا عزيز» فلمه بكاميرته الشخصية وبمعدات الإنارة التي يملكها. واستطاع أن يحقق فنياً، ما يعجز عن تحقيقه إنتاج سينمائي بميزانيات منفوخة. واعتمد لفيلمه ممثلين اثنين حرفيين، ساعداه على اعتبار عمله ثقافياً وليس تجارياً بأجور شبه رمزية وارتفعا بمستوى الفيلم وهو أيضا رفعهم باقتدارهم إلى مصاف المخرجين المتمكنين. تجدر الإشارة إلى أن مهندس الصوت، الإيراني المغترب في ألمانيا «ميلاد بوستانيبور» وهو موسيقي أيضاً، قد أضفى على الفيلم أهمية عالية من خلال قدرته الشاعرية في عزف الموسيقى وفي طريقة استخدام المؤثرات الصوتية. لقد وضع على مشاهد الفيلم لمسات بيانو متآلفة مع طبيعة المشاهد وبطريقة أنيقة ومعبرة، كما أسمعنا في بدايات الفيلم والإرهاق الواضح على سائق التاكسي ومشاعره وهو يعيش مشاكل الغربة والأهل والعمل وانهيار الحلم، وضع لنا على مشاهده ضربات قلب مجسدة والزبائن يصعدون التاكسي وينزلون في آخر الليل، قبل أن يدخل في ضربات البيانو على المشاهد الدرامية ومعاناة السائق الأرميني في الفيلم. «تاكسي أناهيت» جسّد بقدرة غير عادية الغربة الجغرافية والغربة الوجودية على حد سواء.
«تاكسي أناهيت» أتوقع أن أسمع أخباره وهو يحصد الجوائز في مهرجانات السينما في العالم.