علي الدميني
في هذه الوقفة الأخيرة مع منجز الشاعرة، نراها و قد تجاوزت غنائية التدفق الحار لعلاقة الذات بالحياة من خلال نص «الهوية»، إلى التأملية في ديواني «ماء السراب» ، و«تمرد عذري»، ومن ثم ذهابها بعد ذلك إلى أبعد مدى من التأملية يمكن أن يطاله مخيالها الشعري الخصب، حيث بدأت خطواتها الأكثر جرأةً و عمقاً في حركة هبوط الآلهات السومريات إلى قلب الأشياء، واستنطاقها، لتكون ينبوع مخيال مرحلتها الشعرية الثالثة !
و قد أبدعت ثلاثة دواوين شعرية متتالية عاشت فيها حالات تماس خاصة مع الموجودات، في فضاء تجربة مختلفة، فنراها في «شجن الجماد»، وهي تدخل إلى قلب الأشياء، وتتحسّس مشاعرها التي لمسنا نحيبها باليدين في ديوان «مرثية الماء».
أما في ديوان «ملمس الرائحة»، المنشور في مجموعة الأعمال، فإنها تبقى ضمن أفق التركيز على الأشياء و لكنها تلامسها من السطح و لا تحلّ في دواخلها، حيث توظف «ملمس الروائح» بحميمية من أجل ابتكار جمالية كتابة النص و متخيله الشعري، فيما يغذو «مخيال الماء» في كل أشكاله (النهر ، النبع، الجدول، المطر، الثلج، الضباب، الندى، المحيط ...الخ) محفزاً رئيساً للانفعال الجمالي بالماء، ضمن مخطوطة ديوانها الأخير الذي لم تحسم بعد خيارات عنونته، و إن كانت تميل إلى شيء من قبيل «بيني وبين الماء» !
و قد اخترتُ توصيف متخيلها الشعري في هذه المرحلة ب «الشيئية»، للأسباب التالية:
1ـ جرى استخدام هذا المصطلح، الذي يعود إلى الفيلسوف مارتن هيدجر، من قبل عدد من نقاد الفن التشكيلي في العالم، و يمكن أن ينطبق على نصوص شاعرتنا تحديدا. وفي هذا السياق يقول الناقد التشكيلي و الشاعر العراقي خالد خضير: « الفن واقعة شيئية»، و ليس تجسيداً للفكرة المطلقة، لذلك ينبغي التركيز على الخصائص المادية للعمل الفني. و هذ الأمر يصدق كذلك على الشعر. و يجب أن يجري البحث عن جوهر الشعر في «الشعرية» التي تكمن في خصائص النص وفي طبيعته النصّية واللغوية الجوهرية.
و هذا المفهوم مستقى بتحوير من أفكار هيدجر التي يمكن الاطلاع عليها في كتابه «أصل العمل الفني»، إذ يرى هيدجر أن العمل الفني في أصله شيء ماديّ كغيره من الأشياء، لكنه يتميز عنها جميعاً بإفصاحه عما هو أكثر من الشيء، أي بكونه رمزاً. (جريدة الاتحاد الاماراتية – 6\9\2012)
2ـ يتقاطع عمل الشاعرة هنا من طرف آخر مع أفكار ميشيل فوكو حول العودة الى الأشياء ذاتها خارج أحمال التمثيلات الصورية في الكلمات التي تحجبها عنا، حيث يقول مطاع صفدي في هذا السياق في مقدمة كتاب «الكلمات و الأشياء»: ( ذلك أن فوكو بالرغم من كل ما بذله من أجل إبراز التمفصل الجديد الذي تحققه عودة الأشياء كممثلة عن ذاتها، بدلا عن التمثيلات الصورية التي تمحو و تنسينا ما تمثله حقاً، إلأ أن فوكو لم يُشغَل بما يكفي في عقلنة العقلانية الجديدة، التي تنشيئها جينالوجيا – اركولوجيا المفهمة في الأشياء، بدون المفاهيم – ما فوق ـ الأشياء.... حتى يقول : كأنما المطلوب شيأنة الأشياء و ليس أبداً فكرنة الشيء). (ميشيل فوكو – الكلمات و الأشياء – مركز الإنماء العربي - بيروت - 2013م).
3ـ إن الفكرة الجوهرية التي ساقتني لاستخدام هذه التسمية تأتي من الرغبة الموضوعية في توظيف مصطلح يكون أكثر قرباً لتوصيف خصوصية هذه الأعمال التي هبطت فيها الشاعرة أسطورياً إلى أعماق الجماد، و التي تكشف عن قناعة إبداعية تمثليّة، جرى تكريسها في ثلاثة دواوين، مؤكدة بذلك على أن للعمل الفني وجوده المادي المكتفي بذاته و برمزيته الجمالية التي يشعها، بعيداً عن تحميله من خارجه بأحمال مشاعر المبدع أو مشاغله الحياتية أو الوجودية الأخرى، و هذا ما رأيته في قصائد تلك الدواوين، بل أنها اشتغلت على التنظير له في قصيدة تضمنتها مخطوطة ديوانها الأخير، الذي لم يطبع بعد، حيث تقول:
البحيرات ...
قصيدة نثر شغوفة بشعر مصفى
مشغولة عن الجميع
بمشاكلها الشخصية
بتحديات التجدد
بإيقاع الموسيقى
كلما دق قلبها
البحيرات كأنها..
كأنها أنااااا
بعد الكتابة
لذلك، فالشاعرة تمضي في سياق عام أصبح ينتظم قصيدة النثر العربية الحديثة، حيث يغدو النص الشعري لوحة جمالية خالصة، تقترب من مفهوم الشعر الصافي أو الفن للفن، و لا تتغيا حمل رسالة خارج كينونة اللوحة، و لكنها تحمل رمزية جمالية يمكن أن يثريها التأويل المفتوح على كل الفضاءات!!
4ـ يختلف مفهوم «الشيئية» عن مفهوم «التشيوء» الذي يحيل إلى تشيوء الإنسان و تحوله إلى شيء جامد جراء سلب حريته وكرامته و وجوده وتطلعاته، ليصبح مغترباً و فاقداً لمعنى الحياة و الأمل و الحلم و السعادة.
و قد اتسمت قصائد هذه التجربة أو المغامرة لدى شاعرتنا بما يلي:
أ- تطور آليات الكتابة و رسم الصورة الشعرية، و ثراء القاموس اللغوي، و تجدد زوايا التقاط الومضة الشعرية، و مفاجآتها و مفارقاتها المدهشة.
ب - تعدد مداخل تدشين الدخول في حالة النص، و ابتعاد سرديته عن الغنائيىة أو التعبير عن القضايا المعاشة ، لتصبح القصيدة عريانة لا تشير إلى محمول ذاتي أو خارجي، و إنما تصفو كنص تأملي وصفي أو إشاري، مركّزة بؤرة النظر على العمل الفني باعتباره «واقعة شيئية» ، لها وجودها المحض و حقيقتها الخاصة.
ج - الشاعرة تعمل على تخليق بلاغة شعرية جديدة، و يمكنني استعارة عبارة للناقد عبد الجبار خفاجي لتوصيف صنيعها هذا، حيث يقول: «الشاعر يعمل على التقاء ما لا يلتقي، لخلق بلاغة جديدة، توسع فضاء المجاز، و فاعلية اشتغالاته».
د - شاعرتنا لا تذهب إلى الحلول في الأشياء بدافع من حدسٍ صوفي، أو معرفة إشراقية، و لكنها تقاربها كنزعة تأملية و رمزية تبصر في الأشياء أبعد مما نراه، بغية تعميق نزوعها لأنسنة الأشياء الحميمة أو العابرة في اليومي، عن طرائق تحويلها إلى نص و رمز و معنى جديد.
هـ - و بذلك فإنها تجترح رؤية هادمة لكل الأشكال المستقرة ، بما فيها تاريخ منجز الشاعرة ذاتها، و خبراتها الجمالية السابقة!
شجن الجماد
من إيقاعية حرف «الجيم» في عنوان الديوان، يأخذ باب الكلام مجراه نحو العمق البعيد للأشياء التي تحضر بين دفتيه، مما تراه العين في البيت و المكتب و الشارع. فالشاعرة لا تذهب إلى الوجود المحض لتلك الأشياء في الغابات أو الحقول أو الصحارى أو قمم الجبال أو داخل أعماق الأرض، لتحلّ في فرحها أو صمتها أو غضبها أو انكساراتها، و إنما تتعاطى مع الأشياء الصغيرة و قد تخارجت من وجودها الأولي و غدت في عملية تحويلية أداةً استعمالية يتجاور في تكوينها البعد الجمالي والبعد النفعي الأداتي معاً، مستجيبةً لتحقّق الإجابة على السؤال الفلسفي القديم حول: لماذا لا يكون الممتع مفيداً!؟
أما اشتغالات المتخيل الشعري للشاعرة في مرحلتها الثالثة، فقد تبدّت فيه لعبة مكر الفنان في إحالة هذه الأدوات إلى عمل فني آخر غير نفعي، حيث يتحقق فيه ما يراه (هيدجر) عملاً فنياً يكشف عن جوهر الموجودات\ الأشياء ، أي عن ماهيتها وماهية الأداة من خلال ما يسميه ب «الواقعة الشيئية» المعبّرة عن حضور المادة في شكلها الجديد كرمز جمالي مفتوح على التأمل.
و قد ضم هذا الديوان أكثر من مائة لقطة وهج شعرية للأشياء الصغيرة، تبدأ من (الورقة، الحذاء، المرآة، وكيس الورق)، و تمر بعشرات الجمادات التي تحولت إلى أدوات، و تنتهي بـ (الطاولة، المحمول، النظارة، المشرط، و الكفن)، و كأنها سلسلة سردية لحالات شعرية تتوهج في جُمَلها مشاعر الأشياء و أوجاعها و انكساراتها، حيث تنكسر جميعها، وكأنها مخلوقات حية ولدت و عانت ثم سارت إلى العدم، كشقيقها أو صانعها، الإنسان.
غير أن الفن يخلدها ضد الموت و النسيان، كما قال محمود درويش: قتلتك، يا موتُ، الفنونُ جميعها!
و سأقف على بعض نماذجها في إيجاز، لكي نشير أو نتلمس معاً، ملامح بلاغتها الجديدة، وما حملته شيئيتها من ترميزات و دلالات مفتوحة على التعددية، لا الأحادية!
مكنسة
قليلة هي القصائد التي حافظت على سمة التكثيف و القصر ومنها هذا النص، بيد أن أغلبها لم يستطع التخلي عن تمدده السردي المعروف في جماليات تجربة الشاعرة في مرحلتها الأولى.
« غبارٌ رقيقٌ
يسدُّ حنجرتي
فأسعلُ إلى أن تهترئَ
رئتي
و لكن السيدة لا ترقُّ لحالي
تكنسُ بسأمٍ و تشفٍّ
و كأنها تكشط جِلدها
من آثام الأنوثة » (الأعمال الكاملة – ص 356)
و يأخذ النص بلاغته من التقشف في استخدام البلاغة اللغوية لرسم الصورة الشعرية الحسية هنا، والاكتفاء بالبساطة الوصفية المشهدية، و توظيف البعد الهزلي للسخرية بين كيانين يظن كل منهما أن الآخر يقاتلهُ، والمقابلة بين المرأة كإنسان، والمكنسة ككيان فني أصبح هنا واقعة شيئية، تشبه الإنسان. و يظهر الرمز في القصيدة أشد وضوحاً و وجعاً، حيث أشار إلى عنف المرأة تجاه مخلوقاتها و كأنما تكشط جلدها من آثار الأنوثة؟ لماذا؟
إننا هنا بإزاء ملاحظة تجليات الرمز الذي تعبر به «شيئية الأشياء» في القصيدة عن وجودها الجمالي، حيث تتكشف عن تحيز واقعي معاش، ما زالت فيه المرأة، حتى في عصر المكنسة الكهربائة، هي التي تكنس البيت، في وظيفة مؤبدة!!
مسودة
قرأت من قبل قصيدة للشاعر محمد العلي، مكونة من جزأين : أولها «مسودة»، وكانت لغتها تفور بحسيتها الجسدية و أشواقها المتفلتة من عقالها، فيما أتى الجزء الثاني بعنوان «مبيضة»، ليكون شبيها بالمسودة إلا أنه انتهى بذهاب كل تلك الحالات الحسية الفارهة إلى الممات القاتل!، لذلك فالمسودة الأولى هي رفيقة حرائق الصبوات البكر و الحلم الفاتن دائماً.
و الشاعرة هنا، في هذه القصيدة، التي يستعيد فيها مجاز اللغة موقعه الأنيق في تجربتها، تقف على لحظة التدفق العفوي السيال للكتابة على الورق، حيث تكون المسودة شريكة و شاهداً على أعذب حالات الولادة الشعرية، حيث تقول:
« ليس سوايَ
يبصر الهالات السوداء التي يرسمها
السهر تحت عيونهم بحثاً عن بريقٍ
لم تفقؤهُ نظرةٌ سابقة
ليس سواي
يسمع الشهقات المروّعة
إذا مرّت أفراس اللغة من الشبّاك
و لم تغسل حوافرها في دم العاشق
ليس سواي يحسُّ جراح الأكفّ
تقرّحات الأحلام
تشقّق الخاصرة
بحثاً عن حرفٍ لم يتنفّس فيه
إنسٌ و لا جان !! » ( الأعمال الشعرية – ص 354)
إنها فعلاً مسودة لحظة عناء انبثاق نبع الشعر وصعوبة اقتناص سرب الكلمات المعبرة عن فيضان الحالة البكر في وجدان الشاعر الأنيق. و لكم تتصادى مع ما قاله الشاعر العربي القديم «أبيت بأبواب القوافي كأنما \ أذود بها سرباً من الوحش نزّعا» !
قصائد أشجان حسيّة
بحميمية عاشقة تقترب الشاعرة من الأعماق الحسية المتخيلة للأشياء، فتكتشف ينابيع الرغبات الدفينة في قلب الموجودات في نزوع صوفي معكوس، ومن تلك اللمحات ما نراه في «الحذاء ، الرّوب، وحبل الغسيل»، التي تتواطأ جميعها لتذكيري بهذا الديوان، كلما حاولت لبس الحذاء، أو رأيت الروب معلقا على الجدار، او خطَفَتْ نظراتي لمعان اعتناق الملابس على حبال الغسيل!
أما الجماد بين يدي مبدعة مثل فوزية أبو خالد، فإنه لا يدخل القصيدة لكي يؤدي وظيفة ترفيْهٍ عابرة، و لكنه يتخلّق مفصحاً عن حضوره عبر الشجن والغضب والاحتجاج وعبر البكاء والحب و التولّه الحسي بالأجساد، عابثاً بكل المواضعات ومرتباً لطرائق عشق حسية مغايرة، لا نجد أشباهها إلا لدى مؤلفي حياة ألف ليلة و ليلة!
و لنر قصيدة «الحذاء»، وقد تحولت إلى عاشق لملامسة حرير القدمين اللتين تدخلان أعماقه فرحاً، و منتظراً أن يشاركها في احتضان حلمٍ دافئ بهيج.
أُحِبُّ هذا الحرير الحارق
كلّما تدفقت قدماها
في جوفي تغسل عنّي وصمة الجماد.
أحبُّ الطرقات الوعرة
التي تقتحم بها
ليونة جلدي .... الخ
أما «الروب» ، فإنه يكتب معلّقةً لم يقلها عمرو أبن أبي ربيعة، في تفتيق جماليات القوام و الجسد و ما يخبئه من حرائق صامتة تغري به حتى الجماد:
ملقىً على مشجبٍ خشبي
خشبُ المشجب على وشك
أن يتحوّل إلى شجرة سدر
كلّما أحتّك بحرارة روحها
العالقة بالقماش
القماشُ على وشك أن يعود إلى زهرة قطنٍ
كلّما لسعَتهُ
رائحة صابونتها ... الخ
أما قصيدة «الحبل»، فإنها لوحة فنية مدهشة ترسم صورتها الشعرية بالتقابل بين اللذة والألم، بين سريان المتعة في روح الحبل و بين خنقه بملاقط الغسيل.
«ترِفُّ الملابس
أسراباً من طيورٍ ملوّنة
فتسري مسرّاتٌ سريّة
في ذرات الفضاء
تلثمُ آلام الملاقط
حول نحري». ( المحموعات الشعرية – ص 379)
و كل هذه النصوص الثلاثة تحمل إشارات إبداعها في التعبير عن الحسية الجسدية عبر طرق جديدة مبتكرة أبدعتها عيون الشيئية التي خلّقتها الشاعرة في هذا الديوان وما بعده.
ديوان «ملمس الرائحة»
حينما قرأت بعض قصائد هذا الديوان مثل : «صبايا، رائحة الشهوة، النعناع، و رائحة الحب»، تذكرت حاسة الشمّ الرهيبة التي كان يتمتع بها بطل رواية «العطر أو قصة قاتل» الشهيرة لمؤلفها الألماني «باتريك زوسكيند» ، حين كان ذلك الكائن الغريب يشمُّ خيال رائحة العطر في الأشياء البعيدة و في دماء العذارى أيضاً، فيتتبعها حتى موتها، ليستطيع إنتاج عطر يشبه ما حدست به حواسه!
أما شاعرتنا فإنها تشم الرائحة المادية والمتخيلة للأشياء و للموضوعات، وتذهب إلى تخليق ملمسها وحالة الإحساس بها من دم الكلمات الجديدة، حتى تشيع فتنة الشعرالقاتلة بيننا على بياض الكتابة!
و يمكنني القول بأن ديوان «ملمس الرائحة» يكاد أن يشكّل خلاصة تجربة إبداعية طويلة تتبدّى عبرها أدقُّ أدوات الشاعرة رهافةً و فاعليةً، من خلال مكونات متخيلها الشعري، و مكر حيلها الفنية، حيث نلتقي بعصارة ما جرّبته في دواوينها السابقة ، ولكن في مستوى أعلى من الكثافة و العمق و الحنكة و الجمال. فنقرأ الشعرية في بعدها السردي و تداعياته الملحمية، و سنشم رائحة غنائية جدل الذات و الواقع، و وشم الهوية التي لا تستطيع تجاوزه كمثقفة منغمسة في نسيج مجتمعها، متجلياً هنا في نصين أولهما «رائحة الربيع العربي»، حيث تهلُّ نسائمه الأولى كمرحلة تتوّج حلم التحرر و التحرير و التقدم، صوب متخيله الاجتماعي و الثقافي و الإنساني، وخاصة في حضور عدالة السواسية و المشاركة بين الرجل و المرأة في ساحات النضال، والتي تتبدى في القصيدة من خلال تشكيل وردة صنعها حضور الشباب و الشابات معاً في قلب المشهد و دولاب حركته المطلبية، حيث تقول في النص:
«تينع رؤوسٌ ليست للقطاف
ينصِبُ الشباب صواوين أعراسٍ لا تطعنها الديون
تلبس الصبايا خواتم لم يخترها الأهل
يتناول العشاق أرغفةً مح مّرةً بالحب
ينامون على عشبٍ لم تتمرّغ عليه الذئاب
يسرحون إلى أحلامٍ لا يلاحقها العسكر». ( المجموعات الشعرية – ص 641)
ولعل ما في هذا الحلم من مخيال طوباوي ما زال بعيداً على التحقق ضمن فضاء ثقافة عالمنا العربي، هو ما جعل النص يستجيب لمواضعات و ارتكاسات الواقع، حيث ذهبت الشاعرة لتسميته ب «رائحة الربيع العربي»، و ليس الربيع العربي وحده، لأنه ما زال خيالاً بعيداً على الشفتين!!
أما نصها الثاني في هذا السياق، فهو بعنوان «رائحة تلاحقنا دونما اسمٍ و بغير سبب»، حيث لا يبقى من الذكريات و شجر الذكرى سوى رائحة عنيفة تهز وجداننا، لتذكرنا برائحة فلسطين و برتقال يافا وأناشيد درويش. و لتمظي المحبرة متغنية برموز ثقافية أخرى كان لها رمزية الوجود الثقافي العربي الذي كتبته الشاعرة على منديل الرفقة و الحلم و الأمل، حتى تنهي النص بقولها: «هل منا، من لم يجرّب
رائحة تراب الوطن
ترشحُ من دمه،
دونما سببٍ، أو لأسبابٍ غامضة»!!
و سنرى في الديوان أشياء و جمادات و موضوعات كثيرة جرى تضفيرها بفاعلية «ملمس الرائحة»، لتشكيل صورها الشعرية المقطرة من التقشف البلاغي، كما سنقف على الكثافة و القصر و اللازمنية، و على ملامح الشيئية في العمل الفني و هي تصنع رمزيتها و دلالتها الجديدة.
و شاعرتنا تمتلك الثقافة و الخبرة و الموهبة المتدفقة الوهج و الإدهاش، وتستطيع معها أن تبدع في حالتين متناقضتين ، بنفس قوة الصياغة و التركيز و التخييل، و لنر هنا كيف تنتقل ما بين حالتي الافتتان و الألم.
تقول في نص يعبر عن إحدى تلك الحالتين، و الممهور بعنوان «رائحة ملكة الليل»:
«فاتنةٌ تنشر ملابسها الداخلية على حبل المساء»
بينما تكتب في نص بعنوان «رائحة العلاج الكيماوي» عن النقيض:
«النوم و الصحو في أفران الغاز النازية ليس إلا».
لقد اشتغلت على تيمة ملمس الرائحة، لتنتج حالات شعرية لا حصر لها، تستمد مخيالها من تلك الرائحة، لكي تبتكر جديد القول و مدهشات الصور، و لتكن تكأة فنية تقارب فيها ما تخفيه الرائحة أو الأسطح الملساء للأشياء، من معانٍ و دلالات يصعب قولها مباشرةً، ليغدو الفن بين يديها طيناً تشكّله كيفما شاءت! و ذلك عبر ثلاثة نواظم رئيسية هي:
ـ توظيف مواد و موضوعات لا رائحة لها (رائحة الأسرار، رائحة الهزيمة، رائحة الخيانة، رائحة الفلاش ميموري، رائحة الحب، رائحة الموسيقى ..الخ).
تقول في قصيدة : رائحة الهزيمة
نيرانها تنشبُّ بين أظافرنا و نكابر
هشيمها ينتشر في شرايينا الدقيقة
و نحسبه حُمّى عابرة
يهز دخانها جسور الطرقات
يقطع أسلاك الكهرباء
فنتّهِمُ الزرقاء بخداع حاسة الشمِّ ...
نسدُّ أنوفنا و نغطّ في النوم علّنا
لا نستنشق الغازات السامة!،
حيث نقرأ الكتابة فلا نرى ملمس الرائحة إلا في الذروة التعبيرية للنص، فيضطرنا التأمل للعودة إلى العنوان لنربط المعنوي في رائحة الهزيمة بالغازات.
ـ توظيف الأشياء ذات الرائحة بمختلف أشكالها (رائحة النفط، رائحة الموز، رائحة القرنفل، النعناع ...الخ)
النعناع
تمد أذرعها الرقيقة الخضراء
و ترشُّ رضاباً منعشاً لا يُربك حاسة الشمّ وحدها !
و هنا تتداعي سلسلة الانفعال بالرائحة حتى خارج الصورة الشعرية!
ـ الاشتغال على أشياء أو أشخاص لا تسند لها كلمة رائحة، ثم تقوم بشعرنتها من خلال استخدام فاعلية الرائحة في بناء عناصر الدهشة وإرباك الاستقبالية، مثل نص «الصبايا»:
مراوح ناحلة تهفُّ برائحة البارود
إناثٌ سامقات يرمين المارة بالورد
جنيّاتٌ تغنجُ في الدّم ببخور المستكا
نساءٌ يعجنَّ الوجعَ بالحبق و لم يُعجنّ بعدُ
بناتٌ يستمتعن بتهمة تسميم الجو بأريج القوارير.
و لعل في هذه النماذج ما يبرز جمالية التجربة التي عملت على استخدام «دال» الرائحة الواقعية أو الرمزية في الأشياء، ومن ثم تغريبه في بنية النص، إنزياحا و مفاجأة و إدهاشاً، و ذلك ما نرى فيه إغناء لتجربة الشاعرة أولاً و تجديداً لتحولات مساراتها، وتعميقا لشعرية النص و تكثيف حالات استقباله و تأويله ، والانفعال بجمالياته.
* * *
و بعد رحلتي المطولة مع تجربة الشاعرة المتألقة فوزية أبو خالد، أود أن أنوه في ختام كتابتي إلى أن هذا الحفر المستمر على تيمات محددة تشغل كامل فضاءات الديوان الواحد في مرحلتها الثالثة، و برغم ما يحمله من رؤى تجديدية و تأملات إبداعية رائعة، إلا أنني أرى بأنه يعبر عن مرحلة تجريب ناضجة أخذت حقها، و لا بد من تجاوزها إلى آفاق أخرى نعيش معها فيها حرارة التدفق الوجداني و العفوي غير الترصّدي لشعريتها، بجانب هذا الزخم التأملي الجميل!