محمد عبد الرزاق القشعمي
لم يجرؤ أحد من أعضاء الحزب الدستوري الحجازي على إبلاغ الشريف حسين قرار الحزب بطلب تنازله عن حكم الحجاز لابنه علي عام 1343هـ، فقد اعتذر كثير منهم خوفاً من بطش الشريف، فبادر السيد محمد طاهر بن مسعود الدباغ بإخبار الشريف حسين بقرار الحزب. لفت نظري شجاعته وجرأته وإقدامه رغم أنه كان يتولى وزارة المالية في عهد الحكومة الهاشمية.
قال عنه محمد علي مغربي في (أعلام الحجاز ج1) «.. ولد السيد محمد طاهر الدباغ بالطائف عام 1308هـ وتلقى علومه الابتدائية بمكة ثم بالإسكندرية ثم عاد إلى مكة وتلقى العلم على أيدي علماء عصره بالمسجد الحرام، حتى حصل على إجازة التدريس واشتغل به في المسجد الحرام مدة من الزمن، ثم التحق مدرساً بمدرسة الفلاح حتى أصبح مديراً لها، وفي عام 1336هـ انتقل إلى مالية جدة وأصبح رئيساً لها ومعتمداً للمعارف بمدينة جدة وتوابعها في عهد الشريف الحسين بن علي، وفي عهد الملك علي بن الحسين عام 1343هـ إلى 1344هـ تولى وزارة المالية... وقال أنه الذي تحدث إلى الشريف الحسين في مكة تلفونياً وأبلغه بأن المجتمعين وهم أهل الحل والعقد قد قرروا عزله عن العرش وتولية ابنه وولي عهده الشريف علي بن الحسين ملكاً على الحجاز... ولقد كان الشريف حسين كما يعرف معاصروه معروفاً بالصرامة والجبروت وكان ينزل بطشه وعقابه لأتفه الأسباب فالإقدام على إبلاغه بقرار أهل الحل والعقد إقالته من الملك وتنصيب ابنه بدلاً عنه ليس بالأمر السهل وإنما هو من عظائم الأمور التي تدل على تمتع صاحبها بالشجاعة المفرطة، التي تؤهله للاضطلاع بعظائم الأمور..».
لقد هاجر الدباغ بأسرته جميعاً من الحجاز بعد أن تولى الملك عبدالعزيز آل سعود حكم الحجاز، وقال المغربي: «أنه توجه أولاً إلى الهند ثم تنقل بعدها في مختلف البلاد العربية والإسلامية مشتغلاً بالتدريس إلى أن أصدر جلالة الملك عبدالعزيز نداءه المشهور إلى رجال العهد الهاشمي المهاجرين في الخارج يدعوهم إلى العودة إلى بلادهم ليعملوا تحت لوائه في سبيل خدمتها والنهوض بها إلى ما يطمح إليه الجميع من رقي وتقدم».
وقد استجاب الدباغ كغيره إلى دعوة الملك المؤسس فعاد نهاية عام 1354هـ. وقد سمعت الشاعر أحمد سالم باعطب يروي قصة تعلمه... أنه بدأ في مدرسة الدباغ بحضر موت والتي افتتحها هناك فترة غربته عن الحجاز وقبل أن يستقر به المقام في جزر جاوة - اندونيسيا حالياً -. وأنه قد تولى التدريس هناك بل وأسس مدرسة وغير في المناهج التقليدية المعروفة..
يروى أنه يتراسل مع غيره في الحجاز، وقد نقلوا له أن الأمن مستتب وأن الحياة طبيعية فيمكنه العودة إلى وطنه ليسهم في بنائها.. فرد عليهم بأنه كيف يعود لشعب جاهل يديره ملك جاهل مثله.. وعند مقابلته الملك عبدالعزيز قال له لقد اخترتك لإدارة التعليم لتعلم الشعب الجاهل والملك الجاهل.. وقال له: «أنا أحملك اليوم مسؤولية تعليم هذا الشعب، فأرني كيف تعلمه» وفعلاً تولى إدارة التعليم في شهر المحرم عام 1355هـ/ 1931م وكانت إدارة بسيطة تعاقب عليها (صالح شطا وكامل القصاب وماجد كردي وحافظ وهبة، ومحمد أمين خوجة وإبراهيم الشورى خلال فترة توحيد المملكة، وقد حولها الدباغ إلى مديرية عامة، فبدأ بنشر التعليم في جميع أنحاء المملكة، فقد ذكر لي المربي عبدالله العبدالرحمن العرفج أنه في حدود عام 1362هـ كان يدرس في المدرسة السعودية - الوحيدة - بحائل فوصلته برقية من مديرية المعارف تطلب منه الحضور إلى مكة. وعند حضوره قابل الدباغ فطلب منه أن يذهب إلى الرس بالقصيم لافتتاح أول مدرسة بها وأعطاه أمراً للمستودعات بنقل ما يحتاجه من لوازم المدرسة، وقد وعدوه بتجهيز سيارة نقل وتحميل ما خصص له في اليوم التالي، يقول العرفج أنه جاء في الصباح الباكر ووجد المستودع مقفلاً فجلس ينتظر في مدخل الدكان المقابل لباب المستودع. فما علم إلا بقدوم السيد الدباغ ماشياً فرآه وسأله لماذا أنت هنا؟ فرد عليه أنه ينتظر فتح المستودع فما كان من مدير التعليم إلا أن طلب مطرقة (شاكوش) من صاحب الدكان فكسر القفل وفتح الباب وقال له هات السيارة وخذ ما تحتاجه المدرسة.
أول ما فكر فيه الدباغ بعد توليه التعليم هو الابتعاث إلى الخارج للدراسات العليا فأسس مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة كأول مدرسة ثانوية بالمملكة، واستقدم لها الأساتذة وذلك لتهيئة الطلاب للدخول إلى الجامعات والمعاهد العليا في مصر، ووضع لها البرامج التي تتفق ومناهج المدارس الثانوية في مصر، وقد فتح الباب لجميع الطلاب الراغبين في الالتحاق بها من جميع أنحاء المملكة بتوفير السكن والإعاشة للقادمين من خارج مكة ولهذا نجد المغربي يقول: «... ونستطيع أن نقول للتاريخ أن مدرسة تحضير البعثات كانت هي المهد الذي احتضن كل المبتعثين إلى الخارج في ذلك الوقت والذين تخصصوا في الدراسات العليا المختلفة كالطب والهندسة والتعليم وخلافهم ومن تلامذتها تخرج الوزراء والأطباء والمهندسون والعلماء نذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر السادة أحمد جمجوم والدكتور حسن نصيف والسيد أحمد شطا والدكتور عبداللطيف جمجوم والدكتور الهرساني والسيد عبدالله الدباغ والعلامة حمد الجاسر وكثير غيرهم». ولم يكتف الدباغ بهذه المدرسة بل عني أيضاً بالطلبة في غربتهم إذ هيأ لهم سبل الراحة بتخصيص دار البعثات العلمية السعودية بالقاهرة وأسند إدارتها إلى مربين قديرين كولي الدين أسعد الذي سهر على راحتهم وتأمين السكن والإعاشة وإلحاقهم بالمعاهد والجامعات ومتابعة سير الدراسين، كما افتتح فرعاً للدار بالإسكندرية تولى إدارتها صادق ماجد كردي.
ولم يغب عن باله حاجة المدن الصغيرة والقرى لفتح المدارس لنشر العلم بين أبنائها، فبعد أن كان التعليم مقتصراً على المدن الكبرى أخذت مديرية المعارف تتوسع بتشجيع ومتابعة من الملك المؤسس مما هيأ الجو المناسب للنهضة التعليمية الكبرى بالمملكة مع إدخال الإصلاحات الجذرية على مناهج الدراسة وتهيئتها لتكون متقاربة بل ومتماثلة أحياناً مع المدارس الأخرى في البلاد العربية المجاورة.
كما قام الدباغ أيضاً بتطوير مدرسة الأمراء في الرياض وتوسيعها وتنظيمها، إذ كانت في السابق محدودة وذات نطاق ضيق فأصبحت فيما بعد تضم مختلف الطلاب بعد أن كانت قاصرة على الأمراء.
بقي طاهر الدباغ قائماً بأعباء هذا العمل العظيم لسنوات طويلة من عام 1355هـ إلى عام 1364هـ حيث عين عضواً بمجلس الشورى حتى أحيل للتقاعد عام 1372هـ.
قال عنه الدكتور عبدالرحمن الزهراني في ترجمته لأعضاء مجلس الشورى أن الدباغ – رحمه الله – كان هو أول من عدل المناهج الدراسية وطور طباعتها ومضامينها، وهو أول من دمج المرحلة التحضيرية والابتدائية بمرحلة واحدة لتصبح ست سنوات، وهو المعمول به إلى الآن.
كما أنه عني بتأسيس مدرسة البعثات بمكة المكرمة في محرم عام 1356هـ وهي التي تعد أول مدرسة ثانوية بالمملكة، كما عمل على توسيع وتنظيم مدرسة الأمراء بالرياض، وإثر هذه الجهود البارزة ثم تعيينه عضواً بمجلس الشورى من عام 1365هـ إلى عام 1371هـ.
وقال عنه حسين علي الغريبي في كتابه (الغربال) محمد طاهر بن مسعود الدباغ.. مرب وسياسي، وطني، ورائد تربوي في طليعة أعلام الرعيل الأول من الرواد التربويين المؤسسين الدين شاركوا في بناء النهضة التعليمية في المملكة، وهو مؤسس التعليم الثانوي، الذي ساهم في مشروع تحضير البعثات التعليمية في المملكة... لقد كان شخصية تعليمية تربوية أسهمت بشكل فعال وبارز في الحركة التعليمية التربوية في بلادنا. يمتاز بصدق العزيمة.. وبعد النظر.. وعمق التفكير.. وسعة في العلم.. والمعرفة.. والثقافة.
وقال عنه أنه درس القرآن الكريم على يد معلمة مشهورة في ذلك الوقت هي السيدة (أهل).. وسافر لأسباب عائلية للإسكندرية وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1906م.. وفي عام 1333هـ تقدم لاختبار الشهادة العالية على يد لجنة من كبار علماء مكة المكرمة، وحصل على إجازة التدريس في الحرم الشريف.
ويذكر المربي محسن باروم أن من أهم منجزاته:
1 -تقوية وتدريب المعلمين الوطنيين في علومهم وفق الأسس التربوية الحديثة. دورات تدريبية – دراسات ليلية – محاضرات.. الخ.
2 -الاستفادة من بنود الميزانية في أعمال إنشائية لإصلاح المدارس، وتجهيزها (مثل تجهيز أول معمل كيميائي).
3 -تعديل وتطوير المناهج.. وتحويل المدارس التحضيرية إلى مدارس ابتدائية وذلك بدمج المرحلة التحضيرية في مرحلة واحدة ست سنوات بدلاً من سبع والدراسة الثانوية ست سنوات بدلاً من خمس بالإضافة إلى إضافة مواد الرسم - مبادئ العلوم - الهندسة، وإدخال مادة التربية البدنية لأول مرة مع إحضار الأجهزة اللازمة وجعل درسها إجبارياً.
4 -إنشاء مدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية - تحضير البعثات سابقاً في محرم عام 1356هـ - أول مدرسة ثانوية تنشأ بالمملكة حسب مقررات المرحلة الثانوية في الدول العربية الشقيقة.
5 -دعم المعهد العلمي السعودي المؤسس سنة 1345هـ. (مدرسين - تطوير مناهج).
6 -إنشاء سكن داخلي للطلبة الوافدين للدراسة بمدرسة تحضير البعثات والمعهد العلمي السعودي.
7- أنشأ فصولاً ثانوية ببعض المدارس الابتدائية.
8 -أنشأ مدرسة خاصة بالأمراء بالرياض عام 1356هـ مع مدرسة أنجال ولي العهد وأصبح منهما معهد العاصمة النموذجي.
9 -وضع مشروع فتح مدرسة دار التوحيد.
10 -أنشأ نواة الحركة الكشفية بالمملكة - دراسات علمية وعملية.
11 -أنشأ دار البعثات للطلاب المبتعثين للدراسة في كل من القاهرة - الإسكندرية.
مؤلفاته:
-ألّف مختصراً في السيرة النبوية.
-أخرج مختصراً في الحديث (الترغيب والترهيب) مع بعض زملائه الأساتذة.
وفاته:
توفي صباح الثلاثاء 1378/7/18هـ بالقاهرة ودفن بها.