د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومن الأمور التي أراها أدَّت إلى تدهور مكانة الأكاديمي حالياً: قلَّة المحفِّزات المادية والمعنوية، بل وحرمانه من كثير من المميزات التي كان يتمتع بها في السابق، فمنذ أن بدأ إلغاء (البدلات) وهو يعاني حالةً ماديةً لا يُحسد عليها، فضلاً عن (مرتبه الهزيل) الذي أضحى بالكاد يؤمن له لقمة عيشه، ولعل هذا ما يدفعه إلى الانشغال بتوفير مصادر دخلٍ أخرى، ربما تكون بعيدةً عن اهتمامه وتخصصه، مما لا يجد معه وقتاً لتنمية مهاراته وتطوير قدراته وإنجاز بحوثه، مما يؤدي إلى ضياع كثيرٍ من هيبته ومكانته، بسبب ما يؤديه هذا الانشغال من ظهوره ضعيفاً في العلمية والثقافة.
أضف إلى كلِّ هذا حرمانه من (الدورات) و(المؤتمرات) الداخلية والخارجية، هذه المناسبات العلمية التي من شأنها أن تطور مهاراته وقدراته، ويبدو أنَّ المسؤولين لا يدركون انعكاسات هذا الحرمان على عضو هيئة التدريس، ولا يعون أنَّ أكثر من 70 % من حلول المشكلات العلمية والصناعية تنبثق عبر التفاعل المباشر أثناء المؤتمرات واللقاءات العلمية، ليس فقط من خلال المحاضرات أو الأوراق التي تُلقى، ولكن أيضاً من لقاءاتٍ غير مخطَّطٍ لها، في المحادثات والنقاشات الجانبية في ردهات المؤتمر، فلا شيء يعادل المقابلة وجهاً لوجه في بناء العلاقات العلمية والاجتماعية والاقتصادية.
وإذا كانت الأسباب الماضية خارجةً عن إرادة الأكاديمي، فإنه أحيانا قد يكون -هو بنفسه- واحداً من أسباب نقص هيبته واهتزاز مكانته، إذ نرى نماذج من الأكاديميين عاجزين عن تطوير أنفسهم وتنمية مهاراتهم، أو متكاسلين عن الاستمرار في الحفاظ على نشاطهم العلمي والبحثي، متوهمين أنَّ الحصول على الدكتوراه نهاية المطاف، ومعتقدين أنهم نالوا -بهذه الدرجة العلمية- المجد من أطرافه، وأنهم ألموا بكلِّ فنون تخصصهم، وظنَّ الواحد منهم أنه -حين نال الدكتوراه- العالم الذي لا يُشقُّ له غبار، والمرجع الذي ينبغي أن تتوجَّه إليه جميع الأسئلة، حتى لو كان آخر عهده بالبحث العلمي قبل عشرين عاماً أو تزيد!
إنَّ مسألة ضعف المرتَّب وانعدام التشجيع الذي يعاني منه الأكاديمي ينبغي ألا تكون عذراً للبعض للانشغال عن تطوير النفس وزيادة الحصيلة العلمية، ولا يستوعب هذا إلا مَن عرف قيمة هذا المنصب، ووعى حجم أهميته في تثقيف المجتمع، ودوره الكبير في التطور الفكري والحضاري للوطن.
ومن ذلك ما نراه من تساهل بعض الأكاديميين في المهام التعليمية المنوطة به، وتكاسلٍ عن أداء الواجبات المطلوبة منه، وكأنه ينسى أنه أكاديمي مُنحتْ له كامل الثقة لتدريس طلابٍ في مرحلة عاليةٍ من التعليم، بل إنَّ بعضهم يستغل هذه الثقة في تصرفات لا تليق بمعلم عادي فكيف بأكاديمي، فتراه يغيب عن المحاضرات أو يتأخر عنها، أو يظلم الطلاب ويتسلَّط عليهم، أو يهمل تصحيح أوراقهم ويضع لهم الدرجات (بالتخمين)، أو يأتي إليهم دون استعدادٍ للمحاضرة، فيقرأ من أوراق لا يدري ما كُتب بها، ولا شكَّ أنَّ هذه التصرفات وأشباهها تسيء إلى صورة الأكاديمي وتفقده كثيراً من هيبته.
إنَّ الناظر اليوم في واقع الأكاديمي ليأسف مما وصل إليه حاله، مقارنةً بما كانت عليه في السابق، إذ أضحتْ لا تسرُّ صديقاً ولا عدوا، بل إنَّ من نتائج سوء هذه الحال أنَّ منصبه لم يعد مطمعاً لأحد، بل على العكس من ذلك، إذ نرى كثيراً من الأكاديميين في جامعاتنا اليوم (يتسرَّبون) منها، إما بالتقاعد المبكر أو بالانتقال إلى جهاتٍ أخرى، وما لم يلتفت المسؤولون عن التعليم العالي إلى وضع الأكاديمي وتحسين حاله المادية والمعنوية، وما لم يلتفت الأكاديمي إلى نفسه، مصححاً أخطاءه، ومسدداً تقصيره، ومستحضراً أهمية دوره في خارطة الوطن، ما لم يحدث ذلك فإنَّ الأمور ستؤول إلى الأسوأ، وستضيع هيبة هذا المنصب المهم الفعَّال إلى الأبد، كما ضاعتْ قبله هيبة معلم التعليم العام!