د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كنا قد قرأنا إبان دراستنا الأدب في عصر بني أمية ظاهرة الأدب السياسي، وكان المقصود بها تلك الآداب التي ينحاز فيها أحد الأدباء إلى فئة اجتماعية، يرى أنها أحق بسياسة الأمور من سواها؛ فيجند أدبه لهم، ولأفكارهم، ومن يحبهم؛ فظهر الشعراء والخطباء الذين يميلون إلى الخوارج، ودعوتهم، والذين يميلون إلى ابن الزبير، أو أهل البيت، أو الأمويين.
وهذا التحيز يشبه أنواعًا أخرى، ظهرت بشكل جلي في الأدب القديم، كالموقف من السود الذين كانت الثقافة العربية القديمة تنظر إليهم نظرة دونية، كما في قصة عنترة المشهورة، والسليك بن السلكة وغيره ممن كانوا يسمون بأغربة العرب، وكما في الحكاية التي جاء فيها أن نصيبا الشاعر مدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأعطاه مالاً كثيرًا، وكسوة، ورواحل، فقيل له: أمثل هذا الأسود يعطَى هذا المال؟ مما يدل على النظرة الدونية التي ينظر بها المجتمع لهم.
ويلحق بهذا النوع من التحيز الموقف من المرأة في الثقافة العربية، وهي قضية تحدث عنها النقاد والدارسون النسويون كثيرًا، ومظاهرها امتلأت بها كتب الأدب، ابتداء من وأد الإناث إلى اعتبارهن عبئًا وعارًا يحسن التخلص منه.. ويمثله أكبر تمثيل قول الشاعر وهو يرثي ابنة أخته:
قد كنت أخشى عليها أن تقدمني
إلى الحمام فيبدي وجهها العدم
فالآن نمت فلا هم يؤرقني
يهدا الغيور إذا ما أودت الحرم
ففي الوقت الذي يرثيها يبدي سروره بموتها؛ لأنه لن يقلق بعد ذلك على انكشاف وجهها بعده؛ وهو ما يجعله ينام قرير العين، هادئ البال. وهذا السرور الذي أصابه بوفاتها ليس خاصًّا به، بل هو عام بكل غيور يرى في وفاة محارمه راحة له وطمأنينة.
ولا يقتصر الأمر على ما يتصل بالعار، والعيب، والغيرة مما يدور حول صلة المحارم بالرجل الأجنبي، بل يتجاوز إلى الشك بعقل المرأة، ومسؤوليتها، وعجزها عن إدراك حقائق الأمور، وتفضيل الصبيان عليها؛ ففي كتاب البيان والتبيين يروي الجاحظ بعض الآثار التي تؤكد هذه الحقيقة كقولهم: «لا تدع أمك ولدك تضربه، فإنه أعقل منها وإن كان طفلاً»، أو المقولة الأخرى التي فيها النهي عن مشاورة ومحادثة النساء، لتأثير ذلك على عقله.
وتنعكس هذه النظر على الواقع؛ فنجد النهي عن تعليم النساء القراءة والكتابة شائعًا، من جهة، ومن جهة أخرى نجد قلة رثاء الرجال للنساء في الأدب القديم الذي سودت النساء صفحاته في بكاء الرجال، وتخليد مآثرهم، وتعدادها، حتى إن القدماء لم يفضلوا النساء في الشعر إلا في الرثاء. وهناك سبب آخر لتفضيلهم المرأة بهذا الفن، لا يخرج عن الصورة الكلية للتحيز، بل تؤكدها، وذلك أنهن يرثين الرجال، ويذكرن مفاخرهم؛ فأشعارهن دواوين تمتلئ بصفاتهم، لا تختلف عن دواوين الفخر، أو المديح. هذا التدوين للصفات بعد الممات لا يقدر عليه كثير من الرجال الذين قال قائلهم حين سُئل ما بال مدائحكم أجود من مراثيكم؟ فقال: لأن المدح على الرجاء، والرثاء على الوفاء، والوفاء عزيز، وجاء في شعر النساء على أكمل وجه.
فالقصائد التي كتبها الرجال في رثاء نسائهم ربما تعد على أصابع اليد في مقابل قصائد النساء، وقد قال البحتري:
ولعمري ما العجز عندي إلا
أن تبيت الرجال تبكي النساء
وإذا كان الشاعر السابق يعبّر عن ارتياحه بوفاة قريبته فإن البحتري يذهب إلى أن يعده من النعم التي ينبغي شكر الله عليها:
ومن نعم الله لا شك فيه
بقاء البنين وموت البنات
لقول النبي عليه السلا
م: دفن البنات من المكرمات
ولا يقتصر الأمر على الرثاء، بل إن العزاء في النساء أمر معيب؛ فقد روي عن عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، وقد مات بعض أهل بيتهما، رفضهما العزاء فيهن، وقولهما: «إنا لا نعزى بالنساء». وذكر المبرد أن الرجل لا يعزى بامرأة ماتت له إلا في أمه. وهذا يؤكد معاملة المرأة معاملة خاصة في كل شيء قائمة على جنسها، وهو نوع من التحيز.