هل لك في دقائق بين هذه الأكوام الحزينة والرياح المثقلة برائحة البارود فرصة أن تسمع أغنية هادئة ؟!
فمازلنا في رحلة الأغاني من بوب ديلان إلى ليلى سليماني ! إذ أن التراجيديا تتطلب أحياناً في الغرب موسيقى تبعث على الاستشعار بالحزن واستدرار العاطفة تسلية عن المصيبة كالموسيقى الجنائزية ! ولكن هذه المرة الأغنية مجازية وليست على الحقيقة !
فبين السياسة والأدب خيط رفيع لا يجيد التأرجح عليه إلا من أُتي خيالاً خصباً بأفق واسع وموهبة فذة يتسارع القلم بين الأنامل فتتساقط الكلمات على الصفحات البيضاء تساقط المطر المنهمر على الأرض الجدباء ! ولذلك كانت الثورات السياسية دائماً تأتي من رحم الآداب ! وهذا ما أجادته بالفعل طالبة العلوم السياسية والتجارة التي كان لها قلب روائي بأدب عالمي تفوّق بقوة على صراع الدبلوماسية والمال فتُوجت بجائزة الجونكور الفرنسية ثاني أكبر جائزة عالمية في الأدب بعد نوبل حتى عُدّت ثالث عربي يفوز بها والأصغر !
(أغنية هادئة )... هي نتاج طبخة عربية بنكهة فرنسية مُزجت بعناية فجاء مذاقها بين الحزن والأمل وبين الواقع المر والمستقبل الغامض !
في دواخل الإنسان الدفينة في اللاشعور يكمن صراع الشر والخير ففي ظاهره الجمال المتّسم بالأخلاقيات والمُثل بينما يخفي الرذائل وسوء الأخلاق ! بين حياته الإنسانية الراقية وحياته الخفيّة البهيمية المنحطّة ستار وهمي ضعيف يسقط بسرعة حين يتعرض للخدش بكلمة أو يمر به طيف يذكّره بجروح عفى عليها الزمن ! بين العلاقات الاجتماعية السيئة والمحبطة والمحطمة وبين الظاهر بافتعال السلوكيات المثالية المعتدلة ! حياء يسوقه خوف الاكتشاف ! هكذا الإنسان كائن متناقض ضعيف يعيش في حياة الأضداد بين ظاهر مستوي وباطن معوّج ! حين تسبر أغوار الرواية بتفاصيلها تشعر بحياة حقيقية نتلمسها في كل بيوت البلد الممتلأة بالخدم دون أن نعلم أو نتّعظ ! رواية أجمل ما فيها علامات الاستفهام المتوٌجة بأسئلة عديدة تُطرح لما فيها من تداخل فسيولوجي وأنثربولوجي وسيكيولوجي أيضاً ! والرواية يختلف ظاهرها عن باطنها ، تقليديّة في أحداثها ، حيث تدور حول أسرة مكونة من طفلين ووالدهما الذين يتسارعان بإخلاص لأعمالهما فلا يملكان الوقت لتربية الأبناء وخادمة أتت موافقة لشروط الأسرة كما أرادوا ولكن ليس لهم علم بسيرتها الذاتية فنالت من العطف والمعاملة الإنسانية ما تطمئن بها نفسُها بأجر زهيد لا يفي بالغرض فكانت بالنسبة إليهم الصديقة الأمينة التي تسترعي ابنيهما لكن بالمقابل تظن لويز إنما هي مجرد خادمة تمتثل لأوامر سيدها وبداخلها امرأة أخرى محطّمة نفسياً قد تفلت من عقال الاتزان في أي لحظة ! فعقدة الاضطهاد التي لازمتها في حياتها مع أسرتها والعنف الأسري التي تلقته من زوجها مازالت واجدة في نفسها من ذلك فظهور السلوك الباطني المقزز قد يخرج بغتةً وتكون في انفصام عن الواقع بمجرد استغراقها في التفكير عن ماضيها ومعاناتها ناهيك عن الديون التي تلاحقها مع عجز عن السداد وابنة ضعيفة تائهة بينما ترى الترف الباذخ أمام أعينها بين الأم والأب ولا تصل إليه ، هنا تغيب عن الأنظار مع حياة دينية هشّة كل موعظة أورادع يثنيها عن لحظات شيطانية تهم بها ، فكانت المفاجأة القاتلة بأن دفع الطفلان البريئان حياتهما ثمن إهمال الوالدين ومرض وحقد الخادمة التي صبّت جام غضبها انتقاماً سيئاً من حالها ومن ظروفها ومن حياتها ! تشوّق متلهف للقارئ للرواية يهديه لذلك رتابة الأحداث بإيقاع منتظم وحبكة متناغمة يستحث بها نفسه لمعرفة الخاتمة التي لا يتوقعها في رواية مجردة من الحقيقةبينما في الواقع هو درس نغفل عنه كثيراً ونشترك في الجريمة بإصرار دون ترصّد !!
- زياد السبيت