رواية (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ تدخل ضمن ما أسميته في مقال سابق (رواية المثقفين)؛ و هي الرواية التي تحكي أفكار المثقفين و واقعهم؛ تنقدهم و تنتصر لهم، و تعطي لنا نماذج لأدلجاتهم التي عاشوها ردحًا من الزمن ، فهي جامعة بين النقد السلبي و الإيجابي؛ بين محاولة ترميم حالتهم التي تهدمت وإظهار سلطتهم التي يتمتعون بها على السياسي و المجتمع. و عنونة الرواية (بثرثرة) يدل على إظهار جانب الضعف الذي يعيشه المثقف في مرحلة كتابة الرواية؛ فهي تحكي حالة الفضفضة لا الفعل، و محاولة تفلسف تخرج على ألسنة هؤلاء المثقفين السبعة الذين تنوعت مهنهم و هواياتهم بين محامٍ و ممثل و أديب و ناقد فني و موظف، و لم يكن لهم مكان في المجتمع الذي لفظهم إلى (عوامة) شبه مهجورة على ظهر النيل تتمايل على الأمواج كتمايل أفكارهم و رؤاهم البائسة عن هذا المجتمع وتلك السلطة التي يعيشون بينها.
و لعل اعتماد السرد على الحوار في هذه الرواية يحكي حالة الثرثرة التي كان يعيشها المثقف ؛ فالحوار هو أكثر الإشكال مناسبةً لسرد حالة المثقف الثرثار البائس، و العوامة هو المكان الأكثر مناسبة للمثقف المضطرب المتسائل ، و الليل هو الزمان الأكثر مناسبة للفضفضة و الثرثرة؛ وبذا تجتمع للمثقف حالات المكان المنعزلة (العوامة) و حالته الزمانية المنعزلة (الليل) وحالته النفسية التي يعوض بها عزلته (الثرثرة).
و لم يكن غير التفلسف والفلسفة مهربًا لهم من واقعهم الذي يدل حوارُهم على نقمتهم عليه ولذا فإن التساؤلات الفلسفية ضمن الحوارية السردية في الرواية تنبئ عن همٍّ فلسفي لدى المثقف، وتحويل المكان (العوامة) إلى فضاء خصب يمكن من خلاله تبديل المتناقضات «فالفسق رذيلة في المجالس والمعاهد ولكنه حرية في عوامتنا، و النساء تقاليد و وثائق في البيوت ولكنهن مراهقة وفتنة في عوامتنا، والقمر كوكب سيار خامد و لكنه شعر في عوامتنا، و الجنون مرض في أي مكان ولكنه فلسفة في عوامتنا، و الشيء شيء حيثما كان و لكنه لا شيء في عوامتنا « (ثرثرة فوق النيل ص125) .
إنها محاولة لتحويل أثر المثقف إلى الثرثرة ، و الفوضوية كما يرى خالد عزوز بأن همه الأول هو الفوضوية ( ثرثرة فوق النيل ص77) ، و تحويل أثره إلى قاتل للمجتمع و ذلك من خلال الحدث الذي جمع كل المثقفين السبعة في سيارة واحدة يجوبون الشوارع ثم ارتطموا بشبح و هربوا دون أن يعرفوا من هو و ما الذي حصل له ، إنها حالة من العدمية و الارتكان إلى الثرثرة فوق النيل مع المحافظة على عادة شرب الجوزة(الشيشة) في كل ليلة ، ففي هذه الرواية تظهر لنا ثرثرة المثقف و عدميته و فشله و قليلًا من فلسفته.
- صالح بن سالم