نستكمل في هذا المقال كيفية تربية السلوك الجماعي التعاوني وتحمل المسؤولية في المدرسة اليابانية، وذلك من خلال الأنشطة اللا صفية التي تأتي على رأسها الألعاب الجماعية المختلفة والرحلات المدرسية. كما يُعد اليوم الرياضي الذي يُعقد مرة أو مرتين كل عام إحدى الفعاليات والأنشطة المهمة في المدارس اليابانية التي تستمر في الجامعات والشركات لاحقًا. ويتم التنظيم لهذا اليوم من مختلف الجوانب بتوزيع مختلف المهام مثل قيام الطلاب بنصب الخيام بملعب المدرسة بالمشاركة مع المدرسين وأولياء الأمور، وتقديم فقرات البرنامج. ولا تشتمل الألعاب في هذا اليوم على كرة القدم والسلة وما شابها، بل تكون ترفيهية وتحمل قيمة ما مثل المشي بأكواب ممتلئة بالماء دون انسكابها، شد الحبل، الركض الجماعي لمسافات قصيرة، وذلك بمشاركة أولياء الأمور فـي يوم تلتقـي فيه المدرسة والبيت معًا في جو ودي واجتماعي، يتناول فيه الجميع طعام الغداء بالمدرسة. يسهم هذا اليوم إضافة إلى الصحة البدنية والنفسية، في تقوية الألفة والانسجام والتعاون بين الجميع. كما يٌعقد مهرجان ثقافي مرة كل عام يعرض فيه الطلاب ما اكتسبوه من معارف ومهارات، وذلك من خلال الأداء المسرحي، أو إلقاء الشعر أو الغناء الجماعي، أو القيام بعرض جماعي في بعض المقررات الدراسية، في يوم تمتزج فيها مختلف الأنشطة الثقافية والمعرفية والفنية والترفيهية.
تُمثل الرحلات المدرسية كذلك أحد أهم الأنشطة التي تربي الروح الجماعية وتحمل المسؤولية لدى الطلاب، إضافة إلى تقوية أواصر الود والمحبة بينهم من جهة، وبينهم وبين المدرسين من جهة أخرى، حيث يقومون فـي الغالب بالمبيت ليلة علـى الأقل فـي هذه الرحلة. ويشارك الجميع في هذه الرحلات، كل حسب المهمة المطلوبة منه. فيتم عقد لقاءات لمناقشة برنامج الرحلة مسبقًا، والسلوك الذي يجب أن يتصف به الجميع. ويشترك فـي هذه اللقاءات عدد كبير من المسؤولين من داخل المدرسة وخارجها لشرح التوجيهات والنصائح قبل القيام بالرحلة، وبهذا يكون الجميع قد اشترك فـي تحمل مسؤولية هذه الرحلة. وإذا ما وقعت مشكلة ما يبادر الجميع إلى الاعتذار، سواء الطالب أو المسؤول من منطلق أنه ربما لم يُوفق أحد المسؤولين بشكل أو بآخر، أو ربما لم يتأكَّد من وصول التوجيهات بوضوح، ومن ثم يتحمل الجميع المسؤولية مع هذا الطالب. وبهذا يتم تجنب تحميل فرد واحد المسؤولية وما يترتب على ذلك من ضغوط نفسية عليه جراء ذلك. فيقومون بصفتهم مجموعة باحتواء هذا الشخص، ويبادر كل منهم بالاعتذار عن إمكانية وجود خطأ قد تسبب فيه. ولا شك في أن الرحلات المدرسية بهذا المعنى، تعد ثقافة تستحق الاهتمام، فهي علاوة على أنها فرصة للاستمتاع بالحياة الدراسية، فهي وسيلة مثلى لتعويد الطلاب على الانضباط والنظام والاحترام والاعتماد على النفس وتحمل المسؤولية، والتواصل والعمل مع الآخرين، وتقوية ارتباطهم بالمجتمع، ومراعاة الفرد وإشعاره بالأمان داخل المجموعة. وهي فرصة كذلك للتعرف على سلوكيات وميول ومواهب الطلاب عن كثب، فلا ينبغي أبدًا النظر إليها على أنها أحد أشكال الترف الذي يمكن الاستغناء عنه.
إضافة إلى تربية ذلك السلوك الجماعـي، يتم التأكيد من خلال هذا النشاط بين تلاميذ أو طلاب الصف الواحد علـى المفهوم الياباني وا-wa (الانسجام والتجانس)، حيث يكون المعلم رائد الصف بمنزلة الأب الذي يلتف حوله التلاميذ بمنزلة الأبناء مشكلين بذلك أسرة واحدة. وهذه العلاقة الأسرية بين التلاميذ والمعلمين، أحد السمات المهمة فـي التعليم اليابانـي والتـقاليد اليابانية التـي تقدر وتحث علـى الألفة والتفاهم. ويؤكد ذلك غونْزو كوجيما- Gunzo Kojima، أحد مفكري التربية فـي اليابان، بعبارته المعروفة: التعليم بالمحبة، حيث يصف هذه المحبة قائلاً: إنها القوة الدافعة للمعلم فـي عمله مع المتعلمين. ولا شك فـي أن مشاعر المحبة من قبل الغير فـي العملية التعليمية ضرورية جدًا لنمو التلاميذ أو الطلاب فسيولوجيًا وبدنيًا بدرجة لا تقل عن الطعام والشراب؛ ليشعر التلاميذ أنهم موضع اهتمام؛ ما يجعل لديهم نوعًا من الاتزان الانفعالـي تجاه تكوين العلاقات الاجتماعية والمواقف الحياتية المختلفة، وكذلك تجاه التعامل مع الآخر، ومن ثم لا يصير التلاميذ انطوائيين غير فاعلين فـي المجتمع، ولا يفتقدون للانسجام والتوافق مع العالم الخارجي.
ولا شك فـي أن تناول المدرس الطعام مثلاً مع تلاميذه أو طلابه كما أسلفت في المقال السابق، يسهم في تقوية هذه الألفة بالصف الواحد بين تلاميذ الصف، وبين التلاميذ والمدرس، أكثر من تحقيق هدف الصحة الغذائية وتعليم العادات السليمة عند تناول الطعام. فالصف الدراسي يُنظر إليه على أنه أسرة واحدة لها خصوصيتها واستقلاليتها لدرجة أنه يطلق عليه باللغة اليابانية غاككيو أُووقوكو- Ookoku Gakkyuu (مملكة الصف)، حيث لا يُسمح لأي شخص حتـى ولو كان أستاذًا آخر في المدرسة أو المؤسسة التعليمية، بتوبيخ وتعنيف التلاميذ أو الطلاب بشكل مباشر دون المرور برائد الصف، وذلك لأنه يسبب له نفس شعور الحرج والاستياء الذي يصيب الآباء عندما يعنِّف أو يوبخ أحد ما أبنائهم أمامهم. وقد يكون هذا الإشراف والتطبيق من ناحية الشكل والظاهر مدخلاً للارتقاء بمستوى الجوهر والمضمون من منظور طريقة التفكير التـقليدية اليابانية.
إن الالتحام بين مفهوم الانسجام والتجانس بين أفراد المجموعة الواحدة، وبين مفهوم التنافس بين المجموعة ونظيرتها، يعتقد الكاتب أنها طريقة اجتماعية جيدة لتوليد طاقة فاعلة لاستثارة الهمم بين الجميع. بالطبع هذا لا ينفى إمكانية وجود سلبيات قد تؤثر على تطور المجموعة نفسها، حيث تحاول كل مجموعة أن تخفـي ما ينتقصها أو ما يسيء إليها تجاه نظيرتها. ولكن على أية حال، أن إعطاء الأولوية للمجموعة، وتفوق كل مدرسة أمام الهيئات التعليمية الأخرى، يكون فرصة جيدة للطلاب فـي التفكير في الطريق أو المسلك الصحيح الذي يجب أن يتخذونه من خلال العلاقة بين الفرد والمجموعة، أي بعبارة أخرى بين مفهوم العام، ومفهوم الخاص الذي طرحه الكاتب في مقال سابق (صحيفة الجزيرة- العدد 1587، بتاريخ 19 - 3 - 2016م). ولا شك في أن تربية الطلاب على السلوك الجماعي وتحمل المسؤولية كما رأينا من خلال الألعاب الجماعية واليوم الرياضي والمهرجانات الثقافية والرحلات المدرسية، تسهم بقوة في إعداد المواطن الذي يتحمل المسؤولية، الملتزم باحترام الوقت والقانون، المؤْثر للعمل الجماعي البناء الإيجابي. وهذا المواطن المتعلم المتحلي بهذه الصفات، يستطيع أن يتعامل مع المجتمع بوعي أكثر، ويفهم حقوقه وواجباته، ويفهم ممارسة المسؤوليات اللازمة للمحافظة على تلك الحقوق، مساهمًا فـي تنمية المجتمع.
- أ.د. شهاب فارس