-1-
تؤكد مجموعةٌ من النظريات أنّ الأزمات التي تمرُّ بها المجتمعات أحدُ أهمّ عوامل بنائها وتغذيتها مادياً ومعنوياً (تماماً كما هو حالُ الفرد مع الأزمات التي لا تميته)؛ وبناء على هذا يبدو كلُّ منعطف سلبيّ في (راهن) المجتمعات إيجابياً في (مداها)، متى امتلكتْ :
-الوعيَ القادرَ على الاستثمار في الأزمة.
-والقيادةَ الثقافيةَ التي تفعّل هذا الوعي.
-والرغبةَ في تحقيق مكاسب تستهدف المنظومة الثقافية العليا، التي تدير حركة المجتمع فكرياً وسياسياً واقتصادياً!
ولو تتبّعنا المجتمعات المتقدمة والدول الناجحة في ملفات التنمية والنهضة لوجدناها محصّلة أزمات خانقة استطاعت أن تستثمرها لصالح المستقبل، إلى الحدّ الذي يمكن أن أقول معه (دون أن أحتاج إلى استثناء كبير) إنّ كل قفزة نوعية لمجتمعٍ ما تستند إلى جملةٍ من العوامل الرئيسة، في مقدّمتها (بالضرورة) الأزمات الصعبة بأنواعها المختلفة، فحالة الاستقرار التي عاشتها أوروبا على مدى عقود ما كان لها أن تكون لولا تجربة الحربين العالميتين، وهكذا يمكن أن نقول عن كثير من النماذج الناجحة في العالم؛ الأمر الذي يجعل الجزءَ الأكبرَ من المسؤولية على حالة تلقي الأزمات لا على الأزمات نفسها!
-2-
ومن المعاد المكرور الإشارة هنا إلى أنه لا أحد اليوم بمنأى عن الأزمات التي تعصف بالعالم، ولا أحد يملك القدرة على تحصين نفسه من التأثر بها حتى لو كانت بعيدة عنه (تاريخياً وجغرافياً)، وعليه فمن الخسارة أن ننفق جهداً على التحصين يمكن أن ننفقه على تأسيس وعي (حكومي وشعبي) يجعلنا قادرين أبداً على استيعاب الأزمات، واستخلاص العبر منها وسكّها في منظومة قيمية تضمن لمستقبلنا نسبة من الأمان، إن لم تكن من الأزمات كلّها فلا أقل من أن تكون كذلك من الأزمات المماثلة التي يجود بها التاريخُ كلما أعاد نفسه!
ولأنّ بلادنا جزءٌ من هذا العالم، تتأثر به كما تؤثر فيه، ولأنّ قَدَرَها أن تكون في منطقة لم تعرف الهدوءَ منذ زمن بعيد، ولأنها جزءٌ من هذا الواقع وليست الواقع كلّه فإنّ المنطق يفرض علينا إعادة صياغة نظرتنا إلى الأزمات؛ لنتمكن من رؤية (الإيجابيّ) فيها مهما كان محدوداً. وهذا لن يتحقق إلا بجهد شاق، ينبني على رؤية منفتحة تجاه التغيير، ومرونة في الوسائل والأدوات تسمح بمراجعة دورية شاملة للتعليم والإعلام بوجهٍ خاص، ولنشاط جميع المؤسسات (والمؤسسات الثقافية) بوجهٍ عام.
-3-
إنّ المجتمعات التي لا تهيّئ نفسها للتعاطي الواعي مع الأزمات لن تجد أمامها إلا المواجهة الآلية، التي تتشكّل خارج الوعي من جهة، وخارج الظرف وإحالاته من جهة أخرى، ومثل هذه المجتمعات ليست قادرة على استخلاص العبر (لخللٍ في تكوينها)، وحتى لو فعلت لن تكون قادرة على إثراء منظومتها الثقافية مما استخلصته، بسبب (التلقائية) التي تجعلها مستعصية على فكرة المراجعة والتقويم، والتكيّف أو التغيير، فضلاً عن الإثراء. وفي كل مرة تظنّ هذه المجتمعات أنها خرجت من الأزمة تعود لتكتشف أن تبعاتها ما زالت قائمة في التفاصيل، وأن نشاطها الدفاعي لم يقف إلا في وجه سلسلة من الفرص والمكاسب!
لقد مرّت بنا أزماتٌ عاصفة، استطعنا - بفضل الله - أن ننجو من أسوأ احتمالاتها، لكن هل كانت نجاتنا كاملة ؟ وهل أخذنا من تجربة كلّ أزمة ما يجنّبنا الوقوعَ في مثلها ؟ أو يجعلنا أكثر استعصاءً على أزمات أخرى ؟ وهل أصبحنا بعد كلّ هذه الأزمات أكثر استعداداً لمواجهة أزمات أكبر مما عهدنا ؟ إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة ستطلّ بنا على قائمة طويلة من الفرص الضائعة.. كان من الممكن أن تكون معنا اليوم في مواجهة هذا المنعطف الخطير! (وللمقالة بقية).
- د. خالد الرفاعي