ياسر صالح البهيجان
لم تكن الرسالات السماويّة في جوهرها ومنذ مراحل تشريعها الأولى محاربة لازدهار المجتمع وتقدمه علميًا واقتصاديًا، بل كان الدين في أزمنة ماضية رافدًا رئيسًا يحفّز على الإنتاج والفاعليّة ومسايرة التحولات الفكريّة دون وجود توجّس وقلق من أن ينعكس أثر تلك التحولات على تديّن المجتمعات؛ لأن المنتمين للدين كانوا على دراية بأن الاتجاه نحو العزلة سيجعل منهم أمّة متخلّفة وعاجزة عن منافسة الأمم الأخرى.
انفتح العلماء المسلمون قديمًا على الثقافات البشريّة كافّة، واجترحوا حقولاً معرفيّة متعددة علميّة ولغويّة ودينية وفلسفيّة واجتماعيّة، حتى أضحى كتاب «القانون في الطب» لابن سيناء مرجعًا رئيسًا للأطباء على مدى قرون، وباتت مقدمة ابن خلدون أول مؤلَّف يتناول علم العمران بالدراسة والتحليل، وأحدث كتاب «المناظر» لابن الهيثم ثورة في علم البصريّات بعد أن أسقط نظرية بطليموس وأكد بأن عين الإنسان مجرد مستقبلة للضوء وليست مصدرة له.
النماذج الفكريّة آنفة الذكر ليست استثنائيّة في قدراتها العقليّة بقدر ما كانت مجتمعاتها الإسلاميّة تحتفي بالمنجزات العلميّة وتباركها، بعد أن أدركت بأن جوهر التديّن والتقدّم الروحي من شأنهما أن يوفران للفرد إمكانات تحثّه على الإبداع والتفكير ليحقق المقاصد الدينيّة الآمرة باستعمال العقل وجعله أداء فاعلة ترفض التقييد والانسياق خلف مبادئ التلقين التقليديّة، وعندها كان للمسلمين دورهم المؤثّر في المجالات العلميّة والمعرفيّة، وفرضوا أنفسهم كقوّة فكريّة لا يمكن تجاوزها أو التقليل من شأنها.
إعادة تشكيل مفهوم التديّن في ذهنيّة المجتمعات المسلمة في الزمن الراهن باتت ضرورة ملّحة لتجاوز معوقات التقدم العلمي والاقتصادي، وتحديدًا ما يتصل بفوبيا الآخر، إذ لا مناص من التواصل الفاعل مع الحضارات البشريّة أيًا كانت مرجعيّاتها الدينيّة والثقافيّة، ولا سبيل لاتخاذ قرار الانعزال في عصر يتسم بالانفتاح النوعي المتجاوز في آليّاته للحدود الزمانيّة والمكانيّة. مسايرة الحالة الحاضرة غير ممكنة في ظل سيادة طرق تفكير تقليديّة ترى في الشعوب الأخرى خطرًا يهدد المعتقدات والإرث الإسلامي.
التوجّس من الآخر لم يسهم في تخلّف المجتمعات فحسب، وإنمّا أنتج حالة من انعدام الثقة لدى شريحة واسعة من المسلمين، حتى بات الفرد ينظر إلى الإنسان الغربي بوصفه أنموذجًا استثنائيًا يصعب بلوغه فضلاً عن تجاوزه، ومع استشراء هذه الحالة تراجعت الإنتاجات الفكريّة والعلميّة لدى المجتمعات الإسلاميّة، وأصبحت تكتفي بترجمة المؤلّفات الأجنبية واستيراد النظريّات في العلوم كافّة، وتحوّل معها العقل الإسلامي إلى عقل جامد غير قادر على التفكير العلمي، واتسعت الفجوة بين الآباء المفكرين المؤلّفين وبين الأبناء الخاملين المعطلين لإمكانات عقولهم الفذّة التي بمقدورها استعادة أمجاد ماضيها إن أعادت تقييم دورها في خارطة الوجود الإنساني وآمنة بأن تدينها الروحي هو السبيل الصحيح والمنارة المضيئة لتقدمها العلمي والاقتصادي.