الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
النوازل الفقهية اليوم كثيرة وتشتدّ الحاجة إليها في أيّام المحن والأزمات، وكل واقعة من الوقائع التي تتعلّق بالناس في حياتهم وحاجاتهم ومالهم وأمنهم هي نازلة فقهية لاختلاف ما كانت عليه من قبل.
«الجزيرة» طرحت التساؤل حول السّبل إلى إيجاد فقهاء متخصصين يجتهدون بالنوازل ويحسّنون الفهم الفقهي الصحيح المستمد من روح الدين وأهدافه الإنسانية، وبما يحقق المقاصد الشرعية المعتبرة لدفع الحرج عن الناس. وشارك فيما طرحته «الجزيرة» اثنان من المتخصصين في الفقه، وكانت مشاركتهم التالية:
صناعة المجتهد
بدايةً يوضّح د. فهد بن عبدالرحمن اليحيى أستاذ الفقه بجامعة القصيم إن الفقه المعاصر هو امتداد لفقه الأوائل، وقد ترك لنا السابقون رحمة الله عليهم ثروةً عظيمة من الفقه، كما تركوا لنا منهجاً فريداً في تخريج الفقيه، وشروط المجتهد، وما من كتاب في أصول الفقه إلا وهو مشتمل على باب الاجتهاد الذي يحوي طرفاً من ذلك، وللعلماء - مع هذا - كتب مستقلة كجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، والفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وأدب المفتي والمستفتي لابن الصلاح، وغيرها، وللمعاصرين كتب ورسائل علمية كثيرة.
إن محاضن تخريج الفقيه في هذا العصر منها التعليم النظامي كالجامعات من خلال كليات الشريعة، ومنها غير النظامي كالتعليم في المساجد والدورات المتخصصة ونحوها، وبكل حال فعلى من يتولى هذه المهمة الجليلة وهي صناعة المجتهد والفقيه المعاصر أن يشتمل برنامجه على أسس ووسائل البناء التكاملي والتي تثمر الملكة الفقهية، فمنها على سبيل الإيجاز:
1- تعظيم النص الشرعي (القرآن الكريم والسنة المطهرة)، والتسليم له.
2- تبجيل الصحابة رضي الله عنهم والعناية بفقههم.
3- التربية على توقير العلماء والتأدب معهم.
4- تقديم أمهات الكتب والمصادر، وعدم التهيّب من خوض بحارها فإن لها أثراً في قوة الفقه.
5- العناية بفقه الأئمة، والتدرّب على فهم عبارات كبار الفقهاء.
6- التعليم التدريبي وليس الإلقائي فقط، ومن ذلك عقد ورش العمل بين المتعلمين في تجربة استنباطٍ، أو تحليل ٍلعبارات الفقهاء المتقدمين، أو معالجة نصوصٍ متعارضة، أو حل لمشكلة أو مسألة معاصرة ونحو ذلك.
7- حلقات النقاش بين المتعلمين للتربية على الحوار العلمي بوسائله وأدواته وآدابه.
8- عقد المناظرات بين المتعلمين.
9- التدريب على إعداد البحوث إعداداً حقيقياً (دون قص ولصق)، ومناقشة البحوث، مع العناية والتدريب على البحث المكتبي أي من خلال الكتب وفي المكتبات وليس البحث الالكتروني فقط.
10- ربط المتعلمين بواقعهم، وتدريبهم على الوسائل الصحيحة للتعرّف على الواقع.
11- ومن ذلك زيارة ماله أثر في معرفة الواقع كالمحاكم والمصارف وغيرها.
12- التدريب على وسائل التقنية التي لا يستغني عنها الفقيه المعاصر، والبرامج العلمية مع التوازن في التعامل مع كل ذلك كيلا يؤثر سلباً على التكوين العلمي الأصيل.
الفقيه الناجح
وأضاف د. اليحيى أنه يجب أن يشتمل برنامج صناعة المجتهد والفقيه المعاصر على عنايته بالإخلاص لله تعالى وخشيته ? وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ ?، وصدق الهمة في نيل الفقه، والاستعانة بالله سبحانه في ذلك، والعزيمة وعدم اليأس.
وهذه الثلاث جمعها حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز»، والتعبير بـ (احرص) تعبير دقيق وهو مرادف لتعبيرٍ معاصرٍ (قوة الدافعية)، وهي كما هي شرط للبدء فهي شرط للاستمرار الصحيح في طريق الفقيه الناجح النافع للأمة كما هي شرط لغيره أيضاً.
فقد يجتهد الفقيه في قضية مرجحاً رأياً فيها ؛ لكن عند التمحيص يتبين أنه ترجيح قاصر لم يُبذل فيه الجهد الحقيقي والنظر والتأمل الصحيح، فمن بذل الجهد صار أهلاً لنيل الغاية قال الله سبحانه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا . القاعدة الثانية في الحديث، استعن بالله، هذه القاعدة مع عظمتها فهي أيضاً منحة ربانية خاصة للمسلم لا يشاركه فيها غيره.
القاعدة الثالثة، «ولا تعجز» وهي كلمة تبدد اليأس وتقضي على فيروس العجز، وقد حذرنا الله بقوله سبحانه وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ، وأمرنا الله بالمصابرة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ . و(المجتهد) لم يطلقه الفقهاء عبثاً؛ بل قصدوا أن تتوفر له الآلة والدربة والملكة والاجتهاد الحقيقي ليصبح مرجعاً للأمة في قضاياها.
ومما يجب مراعاته في بناء الفقيه عنايته بالمقاصد والقواعد الفقهية والسياسة الشرعية والوسطية في مراعاة كل ذلك فالمقاصد والقواعد والسياسة الشرعية لها مساس مباشر في كثير من الوقائع والنوازل والقضايا المعاصرة، ولذا كان من أصول الوسطية العناية بفهم النصوص فهما شموليا عميقا يعتبر المعاني والمقاصد والقواعد الشرعية العامة.
تصوّر المسألة
ويرى د. اليحيى إلى أنّه من أهم ما تجب العناية به تصوّر المسألة تصوّراً صحيحاً، وإدراك وجه الإشكال فيها، ويتم تصوّرها بما يلي:
1- التأمل العميق في المسألة والشامل لجميع جوانبها.
2- الرجوع إلى المصادر المعتبرة في كل تخصص تنتمي له المسألة الحادثة أو النازلة كالكتب القانونية والاقتصادية والطبية ونحوها.
3- بعد تصوّر المسألة (أو الواقعة أو النازلة) في ذاتها لابد من معرفة واقعها أو ملابساتها، فكثيراً ما يتغير التصوّر ومن ثم التكييف والحكم بسبب ذلك، حيث قد يحيط بالواقعة من عناصر التأثير على الحكم فيها ما يقتضي التقصّي والتأمل الدقيق، كما قد تُضخم بعض القضايا من أجل أن يتخذ الفقهاء فيها موقفاً متأثراً بالضغوط، فالفقيه الفطن لا يقبل أن يُستغفل لتُستل منه الفتوى أو تُنتزع على حين غرة.
4- بعض المسائل والوقائع تقتضي مسحاً ميدانياً أو الاعتماد على إحصاءات ولو أغلبية، للتعرف على حقيقة ظاهرة معينة أو وجود حاجة أو ضرورة.
5- التصوّر الصحيح للمسألة مرتبط بالتكييف الفقهي لها، كما أن التكييف شرط للحكم فيها، ويُقصد بالتكييف أي كيف حقيقة المسألة مقارنة بما يشبهها.
ومن أجل تصوّر الواقعة كما يجب من قبل الفقيه أو المفتي فلابد مما يلي:
الأول: الاستفصال عن الواقعة فإن كثيراً من القضايا المعاصرة لا تتضح بمجرد سؤال المستفتي حيث إن بعضهم يسأل بحسب فهمه وفي الغالب فإن فهمه لها قاصر على اسم الواقعة أو ما يراه كافياً في السؤال.
الثاني: الاستفسار عن حقيقة المسميات
حيث قد يسأل أحدهم عن شيء لا يتضح حكمه من مجرد اسمه.
الثالث: الاستيضاح عن حقيقة ما وقع
لابد للفقيه والمفتي من أن يستوضح عن حقيقة وصورة ما وقع.
الرابع: فهم الفقيه والمفتي لحقيقة الواقعة
إذا اتضحت حقيقة ما وقع بعد الاستفصال والاستفسار والاستيضاح يبقى بعد ذلك فهم المفتي لحقيقة الواقعة والذي يستند إلى معرفته السابقة بها أو من خلال ما وضحه المستفتي مع ما سبق ويأتي التأكيد عليه.
الخامس من الضوابط، مراعاة أقسام المسائل المعاصرة من حيث ارتباطها بالمكان:
فمنها المسائل المعاصرة المجردة مثل: كثير من المسائل المالية أو الطبية التي لا تتغير بتغير المكان في الغالب بل هي ذاتها في هذا البلد وذاك، ومنها المسائل المعاصرة المرتبطة بالمكان مثل كثير من مسائل الأقليات المسلمة، ومسائل الممارسات السياسية، ومسائل الجهاد، ونحو ذلك.
السادس على الباحث والفقيه والمفتي أن يكون على علم بما قيل في المسألة، ولاسيما القرارات والفتاوى الجماعية كقرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية ونحوها، وكفتاوى اللجنة الدائمة وغيرها، كما قال قتادة، ‹›من لم يعرف الاختلاف لم يشم رائحة الفقه»، ومن خلال المعرفة بما قيل فيها تتسع مداركه وتنصقل ملكته الفقهية ويصبح تصوّره للمسألة أشمل وأعمق، ويتبين وجه الصواب فيها من خلال الأقوال أو ما يفتح الله به عليه.
التفريق في الفتوى
واختتم د. فهد اليحيى إلى السياسة الشرعية في خطاب الفتوى، وأعني به مراعاة جوانب من أهمها التفريق بين الفتوى الفردية، والفتوى في مجامع الناس ومن أبرزها في العصر الحاضر القنوات الفضائية، فلا ينبغي التساهل في عبارات قد يفهمها الناس على غير وجهها، وقد عقد البخاري في صحيحه باباً بعنوان: (من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا) وساق تحته أثر علي -رضي الله عنه-: «حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله»، وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة»، وبعض الأحكام قد يناسب الإفتاء بها في قضايا الأعيان دون اتخاذها قاعدة مطردة.
وقائع جديدة
ويذكر الدكتور نايف بن عمار آل وقيان الدوسري أستاذ الفقه و أصوله المشارك في جامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز أنّ النوازل هي وقائع جديدة لم يسبق فيها حكم شرعي بنص أو اجتهاد، والنوازل المعاصرة هي جزء من علم الفقه بل تعد من العلوم الدقيقة حيث ينظر الباحث في واقعة ليس للفقهاء السابقين فيها رأي وهذا يتطلب فهماً عميقاً وذكاءً حاداً.
ودراسة علم النوازل يخص كليات الشريعة وبما أنّ الحديث منصب على آلية تكوين فقهاء لديهم الملكة لإيجاد أحكاما للنواز، فهذا يتطلب الحديث عن اجراءات القبول في كليات الشريعة ومواصفات الطلاب: فكليات الشريعة تعنى بدراسة الفقه وأصوله وهذين المقررين هما أساس التكوين الفقهي بعد فهم الكتاب والسنة خصوصا ما يتعلق بأدلة الأحكام، وعليه أبين الموضوع في النقاط التالية:
أولاً: ما يتعلق بالطالب: إعادة النظر في إجراءات القبول في كليات الشريعة: ولنسلك في ذلك ما هو معمول به في كليات الطب فليست أجساد الناس بأولى من أرواحهم التي تحيا بفهم دينهم عبادات ومعاملات؛ فيشترط معدلات عالية واختبار قدرات دقيقة تكشف عن فهمهم وذكائهم مع اختبارات تحريرية ومقابلات.
ثانياً: ما يتعلق بالمقرر: لابد من إعادة النظر في الخطط الدراسية وما يقرر من كتب ومراجع فتحدث بما يقضيه العصر خصوصا في الأمثلة الفقهية والتطبيقات الأصولية، والتركيز على ما تمس له الحاجة.
كما لابد في هذه المقررات ما ينمّي الملكية الفقهية ويعمل المهارات العقلية التي تساعد على تنشيط الفكر ولو كانت مقررات خارج التخصص هدفها فقط تنشيط التفكير وتمييز الذكي صاحب الفهم من غيره للاستفادة منها بعد تخرجه في التقييم.
ثالثاً: ما يتعلق بالأستاذ الجامعي: ليس كل حامل شهادة مؤهل للتعليم فلا بد لأساتذة الشريعة خصوصاً من التقييم والاشتراطات الدقيقة فهم يخرجون لنا من يفتي الناس ويقضي في الدماء والأموال، وتميز الاستاذ ينعكس على الطالب في الغالب.
رابعاً: ما يتعلق بإيجاد فقهاء في النوازل على وجه العموم: تشجيع البحث الفقهي المتعلق بالنوازل عن طريق المجامع الفقهية في كل بلد، وتشجيع الأكاديميين بدعمهم مادياً ومعنوياً وتفريغهم لهذا الشأن.