عبدالعزيز السماري
من أهم تحديات العقل في المجتمع السعودي الإشكال القانوني للجن. ويأتي ذلك بسبب إصرار الإعلام والخطاب الشرعي على تقديمهم كعضو فاعل في عالم الجريمة في المجتمع؛ وهو ما يجعل من تحديد هويتهم القانونية أمرًا ملحًّا؛ وذلك حتى لا نحكم على أبرياء لجرم ارتكبته الجن باسمهم. وقد تبدو هذه المقدمة في غاية الغرابة، لكنها ضرورة إذا استمر الإعلام والخطاب الديني في تقديمهم كوجود فاعل في حياتنا العامة.
فالجميع تابع على قناة إعلامية كيف يدعي راقٍ علاج بعض الحالات لفتيات من الجامعة، قادهن التلبس لارتكاب جريمة الزنا، وكيف يصدّق المشاهدون ادعاء بعضهم أن الجن أيضًا تسرق الأموال من المنازل. وهذه اتهامات جنائية خطيرة. والمشكلة في هذا الانفصام العجيب أن المدعي يتمتع بحصانة رجل دين، بينما من المفترض أن تتم محاكمته في اتهاماته غير الثابتة للجن، إذا لم يكونوا خلف الجريمة.
الجن مغيبون عن المشهد الإعلامي السعودي، وقد يكون في الأمر انحياز أنسي، والغرض منه تشويه سمعة الجن، لكن من يدري؟ فقد يكون الجن أحد ضيوف حلقات الثامنة في مستقبل الأيام؛ وذلك لفك طلاسم الجهل في العقل السعودي، والخروج من الاعتقال المزمن في دوائر الجهل المتدين للأبد. ولعلني من الذين يؤيدون خروج أحد شيوخ الجن في الثامنة، وسيكون فيه العلاج الشافي من دجل وخرافات شيوخ الأنس، وأجزم أنها ستكون الحلقة الأكثر مشاهدة في العالم.
حاولت أن أفهم لماذا يخاف السعوديون من الجن؛ فقد عشنا على هاجس الجني الشرير منذ الصغر، وقد تكون منطقتنا أرضًا مكتظة بالجن، وربما هم أهل الأرض الأصليون، ونحن مجرد غزاة، استوطنا أراضيهم عنوة؛ وهو ما يفسر الحالة العدائية المزمنة بين الإنس والجن على هذه الأرض؛ فالاتهامات لهم لا تتوقف؛ فهم السبب في أمراضنا ومفاسدنا وسرقاتنا، والحل أن نحاربهم باسم الدين، ونطردهم من ديارهم..
التفسير الآخر أن علاقتنا بالجن تدخل في نظرية المؤامرة؛ لأن فيها منافع كثيرة ومصالح جمة؛ فاستمرار حضورهم الطاغي في المجتمع يستفيد منه بعض الإنس المتنفذين، سواء كانوا رجال دين أو رجال إعلام، وربما يفسر ذلك الحملة الأخيرة ضد نشر التعليم الجامعي والاستثمار في العقل والبحث العلمي، وأن الجامعات ترف لا نفع فيه؛ فتغييب العقل يصبُّ في مصلحة المستفيدين من حضورهم.
وسيؤدي ارتفاع مستويات التعليم والانحياز للعقل التجريبي إلى خسائر هائلة عند هؤلاء المتآمرين. وإلى اليوم لا توجد تقديرات اقتصادية لحجم الأموال التي تدور في الصرف على محاربة الجن في المجتمع، وقد تكون بالمليارات، وربما يكون ذلك مدخلاً مقنعًا للعودة إلى أهمية الاستثمار في العقول، ثم حضهم على التفكير وتحقيق الإنجازات؛ لما فيه من توفير للهدر المالي في محاربة المجهول.
بكل تجرد أطالب بفتح الحوار حول علاقتنا القانونية بالجن على هذه الأرض، وهل هم مواطنون أم وافدون، وهل مشاركتهم في حياتنا العامة حقيقة؟ ثم الدخول معهم في مفاوضات للوصول إلى اتفاق سلام دائم؛ فقد وصل العداء إلى شهادة الجن ضد إنسي أمام القضاء، وإلى التغرير بقضاة مشهود لهم بالعدالة، والآن قد وصل التلاعب بعقول الجامعيات والدكتورات، وإلى سرقة أموال الإنس من بيوتهم؛ فالأمر تجاوز حده، والله يستر على البنوك. وإذا كان لهم حق مغتصب فعلينا إعادته لهم قبل أن نصل إلى مراحل أكثر شراسة وتدميرًا في صراعنا الوجودي والمزمن مع الجن. والله ولي التوفيق.