د. جاسر الحربش
حدثنا أحدهم في أحد المجالس بما يلي: في مراحل الطفولة والشباب المبكر ظهرت عند ابنتي موهبة واضحة في الرسم والتقاط التفاصيل المختبئة في صورة أو نقش أو كائن. هذه الموهبة كانت مثار دهشتنا في البيت ودهشة صديقات الدراسة، ولو كانت بموهبتها تلك موجودة في دولة تحتضن المواهب الفنية وتهتم بالتفاصيل الصَّغيرة في الأشياء، لربما حققت ابنتنا نجاحاً شخصياً وعالمياً لا يمكن تحقيقه في المجتمع الذي تعيش فيه. الذي حصل عند وصولها إلى نهاية المرحلة الثانوية أننا اتفقنا على أن موهبتها الفطرية الرائعة لن تؤهلها سوى للعمل كمدرسة رسم في إحدى المدارس، بينما كانت هذه الموهبة هي العلامة الفارقة في قدراتها مقارنة بالرياضيات واللغات والعلوم.
بناءً على الواقع الاجتماعي توجَّب على الأسرة نصح الابنة وإقناعها باتخاذ القرار الصعب حول اختيار الكلية الجامعية الأكثر فائدة لها وأماناً للمستقبل، وأن عليها نسيان موهبتها التي وهبها لها الله. اختارت الأسرة بالإجماع أن تدرس ابنتنا اللغة الإنجليزية، التي كانت آنذاك أسهل الطرق للحصول على وظيفة براتبٍ مجزٍ ومستقبل أفضل من تدريس الرسم. منذ ذلك الحين انطمرت موهبة الرسم عند ابنتنا في عالم الضمور، فقد تم وأدها ودفنها، وهي لم تعد تهتم للتفاصيل في الأشياء والصور وجماليات الطبيعة.
النتيجة أن وأد الموهبة تكفلت به الأسرة بسبب ضغوط متطلبات ومفاهيم الحياة في مجتمع لا يقيم وزناً للمواهب الفنية كالرسم والنحت والعزف وما يصاحبها من الأداء التعبيري العميق عن طبائع الأشياء.
هذه المواهب الجمالية لا قيمة لها في المجتمعات المتوجسة، ولكن ليس للإناث فقط بل وللذكور كذلك. لا أعتقد أن المواهب الموءودة في المجتمع السعودي محدودة الأعداد، بل هي بالمئات والألوف وربما عشرات الألوف. الوضع جزء من امتداد الجفاف الموروث في حياة أي مجتمع يشترط الصرامة والمحافظة ولو ظاهرياً، بما قد يصاحب ذلك من تمرد خلف الجدران بسبب الحجب والتحريم والعيب. التحجج بظهور بعض المواهب الموسيقية والغنائية هنا وهناك تكاذب اجتماعي متبادل، فهذه الظواهر لا تعبر سوى عن نبتات فوضوية لا علاقة لها بجماليات الفنون وإنما بالصراخ والضوضاء والعويل بطرق بدائية. لا يوجد عندنا عازفون يشاركون العالم الواسع في روائع الموسيقى ولا رسامون يستطيعون إدهاش المتجولين في معارض المخيال العالمي ولا مبدعون ذوي انتشار عالمي من أي نوع. السبب هو أن الوأد الاجتماعي للجماليات والفنون مستمر والاقتراب منه إما بأقصى درجات الحذر أو الامتناع.