منيف الصفوقي
تابعت سلسلة المقالات التي كتبها الأستاذ خالد المالك عن أزمة الصحف الورقية في الفترة الراهنة، وفي ضوئها وجدت من واجبي أن أقدّم شهادة من ممارس لهذه المهنة بدأ في الصحافة الورقية وانتقل إلى الصحافة الإلكترونية.
الشهادة التي أنا بصدد قولها تتلخص في أن مبادرة مؤسسة الجزيرة قبل أعوام في إطلاق صحيفة إلكترونية مستقلة عن شقيقتها الكبرى الورقية تجربة تلقي الضوء في محصلتها على أهمية الصحافة الورقية بالدرجة الأولى، فبعد أعوام في الصحافة الإلكترونية في صحيفة (الجزيرة أونلاين) بت على قناعة تامة بأن الصحافة الورقية لن تتوقف إلا إذا توقفت صناعة الورق، وليس أن السبب هو منافسة الصحافة الإلكترونية.
وعند تقييم أي تجربة يجب أخذ البيئة المحلية في الاعتبار من جميع نواحيها؛ فالصحافة الإلكترونية التي يبشّر كثيرون بأنها ستلغي الصحافة الورقية أمر تعدى المبالغة إلى عدم الصحة؛ فالمواقع الإخبارية حسب تقييمي - باعتباري أحد العاملين في هذا المجال- هي أضعف مما يظهر بكثير؛ فهذه المواقع لا تصنع أي منتج صحفي، بل هي ناقل في الغالب عن الصحف الورقية، حتى بلغ الأمر نقل مقالات الرأي التي تنشر في الصحف الورقية.
نعاني كثيراً من مشكلة تحويل الانطباعات إلى مسلّمات، والأدهى من ذلك أن تُقدّم للمسؤول أو صانع القرار على أنها حقائق، فحين كنت طالباً في قسم الإعلام كان كثير من الأساتذة غير راضين عن الصحف الورقية، ويرون أنها ليست مثالية، مع أن الحياة في حد ذاتها ليست مثالية أبداً. ويعتقد بعض المختصين في الإعلام أنهم لو تولوا إدارة الصحف الورقية لطبقوا علم الإعلام بحذافيره، وهذه نظرة مثالية، ومن هذا الاعتقاد تجذّرت عقدة شخصية لا ترى في أداء الصحف الورقية ومن يقوم عليها إلا الجانب السلبي فقط.
وفي الجهة الأخرى فإن القائمين على الصحف الإلكترونية والمواقع الإخبارية بداياتهم ملتبسة؛ فهم في الغالب ليسوا أبناء لمهنة الصحافة بتقاليدها. وهنا لا تزال هذه المواقع غير واضحة الاتجاه والمنهج، وتغيب عنها الممارسة المهنية، إلى جانب أنها بعد نحو 15 عاماً فعلية من الحضور لم تتبلور في إطار مؤسسي متكامل، بل ظل كثير من القائمين عليها مجهول الهوية؛ حتى سنت التشريعات التنظيمية الأخيرة من وزارة الثقافة والإعلام.
أما القول بأن مواقع التواصل الاجتماعي ستكون بديلة للصحف الورقية أو حتى الإلكترونية ووسائل الإعلام الأخرى، فهو قول لا يقول به إلا جاهل؛ فالإعلام إعلام، والإعلام ليس تواصلاً، وهذه مسألة حُسمت علمياً منذ زمن، ومزيد من التعليق على هذا القول لن يضيف إلا تقريعاً لأصحابه.
أعود إلى الصحافة الورقية؛ لأستشهد بتجربة مكافحة الإرهاب بين العامين 2003 و2010 ودور الصحف الورقية في المملكة، وسبب الاستشهاد بهذه التجربة؛ لأنها مثّلت حدثاً جللاً استمر نحو سبعة أعوام، وهنا برعت العديد من الصحف الورقية في المتابعة الإخبارية للأحداث، وبرزت كل الصحف الورقية في التوعية بخطر هذه الآفة على الجميع، ونجح الإعلام السعودي، ومنه الصحف الورقية، في الإسهام بتحصين المجتمع؛ ما ساعد في القضاء على الإرهاب في زمن قصير بخسائر بشرية متدنية.
ونجاح الصحافة الورقية في دورها الوطني مرده في الأساس إلى المصداقية التي تتمتع بها، وهذه المصداقية هي العنصر المفقود في عالم الإنترنت الذي تشكّل الإشاعة حيزاً كبيراً منه؛ ما دفع الدولة إلى سن قوانين لمحاصرة هذا الأثر السيئ، إلى جانب الإمكانات المالية والبشرية بحكم أنها مؤسسات راسخة لها تقاليدها ومنهجيتها وأهدافها وقياداتها الرصينة.
أزمة الصحف الورقية ليست أزمة مؤسسات بعينها، بل هي أزمة الإعلام السعودي ككل، وإن لم تتحرك الجهات العليا لحلها ستقود إلى تفكك المنظومة الإعلامية؛ فوسائل الإعلام الأخرى مثل الصحف الإلكترونية والتلفزيون والإذاعة تعتمد على ما تنتجه الصحف الورقية، ومعاناة هذا القطاع الذي يحرك وسائل الإعلام الأخرى من شأنه أن يشل حركة الإعلام السعودي بالكامل في وقت نأمل أن يحظى الإعلام السعودي بمختلف وسائله بدعم حكومي على جميع النواحي؛ فالأخطار المحيطة بنا جددت التأكيد على أن الإعلامي له دور لا يقل أهمية عن الجندي الذي يذود عن حياض الوطن؛ فلكل منهما دور يتكامل مع الآخر.
خلاصة القول أن هناك حاجة إلى أن نستمع للقائمين على المؤسسات الورقية، وأن تشكيل مجلس إعلامي أعلى بات أمراً ملحاً؛ ليعاد النهوض بالإعلام السعودي.