د.عبدالله البريدي
(1)
في تاريخ 17 رمضان 1433 (5-8-2012) نشرت في صحيفة الجزيرة مقالاً بعنوان: «وزارة التعليم العالي.. أين أنت من السرقات العلمية؟»، وذكرت في مقدمته الخبر الصاعق الذي نشر في صحيفة «سبق» الإلكترونية بتاريخ 11 رمضان 1433هـ، وجاء فيه ما نصه: (حصلت «سبق» على نص بحث علمي عن «توحيد محتوى مناهج المواد الاجتماعية في التعليم العام بدول مجلس التعاون»، أعده باحث «سعودي» حصل به على درجة الماجستير، فيما قام عميد كلية بجامعة سعودية فيما بعد بالسطو عليه ونشره باسمه في مجلة علمية محكمة تصدرها جامعة أخرى ليترقى به إلى درجة أستاذ. وعلمت «سبق» أن عدداً من الباحثين اكتشفوا عملية السطو على رسالة الماجستير من قبل «العميد» ويجري تداول الفضيحة العلمية في الأوساط الأكاديمية بالجامعة). انتهى الاقتباس.
وقد حظي «الخبر الفضيحة» بأكثر من 220 تعليقاً، مما يشير إلى أن المجتمع بات مهتماً بمثل تلك القضايا، وذاك مؤشر نهضوي جيد مع حاجته إلى التعزيز التوعوي المستمر. وقد التقطت حينها بعض التعليقات على ذلك الخبر، مع إيرادي للتعليقات بنصها ونبضها وقائلها؛ بغية إيصال أكبر قدر ممكن من دلالاتها وانعكاساتها واستحقاقاتها:
- المرتهش يقول: «صادوه، المهم مع احترامي الشديد للجامعات السعودية والعربية إلا أن بحوثكم لا تحقق الحد الأدنى من العلمية، كلها قص ولزق من بحوث وكتب مترجمة، كان الله في عون الغرب نشتمه ليلاً ونهاراً ثم نسرق جهود علمائه».
- عابر 101: «أيتها العير إنكم لسارقون».
- Hvhggi: «عيب العلم لا يسرق، كل شيء ممكن يسرق إلا العلم لا يمكن يسرق».
- قزعان: «اهب الله لا يوفقه افضحوه».
- اربط الضيف ورحب بالفرس: «ايييييييييييييه هيه حصلت -- يا مختلس ليش كذا ليش تأخذ درجة الأستاذ بالحرام, أجل وش خليت للي تحتك».
- مع محمد وصحبه: «عادي جداً والحمد لله كشفت السرقة. مجتمع أعضاء هيئة التدريس ينخر فيه الفساد حتى العظم».
- حسن بن سعد القرني: «الله يخليكم يا سبق أعلنوا عن اسم العميد واسم الجامعة حتى يكون عبرة لمن لم يعتبر والتشهير علاج لأمثاله».
- Mohammed1985: «أجمل تحية لوزير التعليم العالي ونشوف شو بيسوي».
وبعد هذا التفاعل المجتمعي، لم نسمع في الوسط الأكاديمي عن أي إجراء تم اتخاذه من قبل وزارة التعليم العالي تجاه تلك الحادثة الخطيرة، التي تتطلب تحقيقاً مستفيضاً للتثبت من صحة الخبر، ومن ثم تطبيق ما يجب من لوائح البحث العلمي وأخلاقياته. واستقر الملف على خطورته في درج «الموضوعات المهملة»، للأسف الشديد.
كانت هذه لا مبالاة من قبل وزارة التعليم العالي آنذاك، وقد أثرت سلبياً على «الهيبة الأكاديمية» في عقول المجتمع ووجدانه، وقد رأينا كيف ألمحت بعض التعليقات إلى اهتزاز الثقة في فضائنا الأكاديمي، وأنا لا ألومهم إطلاقاً، فهم يشاهدون ويسمعون الكثير والكثير من التجاوزات العلمية. وبمطلق الشفافية، أقول إن من حق كل أكاديمي شريف أن يطالب بالحفاظ على هيبته الأكاديمية، وأن ُيصان الشرف العلمي ويلتزم بالأخلاق البحثية؛ هذا إن كنا نروم أن نجعل من البحث العلمي أداة فعالة لتشخيصنا أدوائنا وبلورة حلول ناجعة لها، كما تفعل «المجتمعات الذكية»!
(2)
وفي 10 صفر 1438هـ نشر خبر صاعق آخر في صحيفة الرياض بعنوان: («الإمام» ترقي أكاديمياً للأستاذية ببحوث مسروقة!)، وأشار الخبر كما في العنوان الفرعي إلى أن موضوع الترقية تم عبر «آلية التفويض» في الإجازة!. وقد جاء فيه أن أستاذاً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تقدم بأبحاث مسروقة للترقية إلى درجة الأستاذية، وقد استعرضت الصحيفة مشكورة عدداً من تلك الأبحاث، وتساءلت: «كم عاقبت جامعاتنا من أستاذ تجرأ وسرق؟ نخشى أن الإجابة لا أحد!».
وحتى تاريخ كتابة هذا المقال، لم يصدر - للأسف الشديد - أي بيان، لا من جامعة الإمام ولا من وزارة التعليم حيال هذا الخبر، مع أنه يتوجب في حالات خطيرة كهذه سرعة صدور بيان توضيحي، مع التأكيد على اتخاذ الإجراءات النظامية اللازمة من تحقيق مفصل من قبل لجنة مستقلة وفق الأعراف العلمية والاعتبارات النظامية في مثل هذه الحالات، للوقوف على الحقيقة وصحة الخبر المنشور، والقيام بما يلزم.
السرقات العلمية يا سادة هي إرهاب في محراب العلم، فهي تنسف المصداقية العلمية، وتفخخ الثقة المجتمعية بالكيانات البحثية، وتفجر الاعتمادية على النتاج البحثي في مؤسساتنا الجامعية والبحثية. وأنا هنا أتساءل ويتساءل معي الأكاديميون السعوديون الذين تهمهم سمعتهم البحثية: هل سيمر هذا الموضوع الخطير دون تحقيق مستفيض واتخاذ اللازم بكل صرامة وشفافية تجاه كل المتورطين بهذا العمل اللأخلاقي (في حالة ثبوته)، حماية لجناب العلم وحفاظاً على سمعة الجامعات السعودية وسمعة منسوبيها من الأكاديميين؟ أم أن وزارة التعليم هذه المرة ستحمي السمعة الأكاديمية والتي تعد رأس المال الجوهري لأي جامعة في العالم؟ هل يمكننا النجاح في تأسيس مقومات بناء المجتمع المعرفي والاقتصاد المعرفي، دون أن تتدخل وزارة التعليم لحماية أخلاقيات البحث العلمي والحفاظ على سمعة المؤسسات البحثية والأكاديمية؟ قطعاً، لا. وسنخسر مجالاً كبيراً لتنويع اقتصادنا الوطني.
(3)
في واقع الأمر، السرقات العلمية لا يخلو منها أي مجتمع، بما في ذلك المجتمعات المتقدمة علمياً، غير أن تلك المجتمعات تبادر بتطبيق التشريعات بكل صرامة حمايةً لـ «جناب العلم» وصوناً لـ «قدسيته» و»طهوريته»، وتتضمن تلك التشريعات عقوبات رادعة؛ بما في ذلك سحب الشهادات وإبطال الترقيات العلمية التي انطوت على أي سرقة علمية بأي شكل كان. والجميل أننا بدأنا نشاهد دولاً لا تصنف ضمن الدول المتقدمة تفعل الشيء ذاته حتى مع تقادم «جريمة السرقة العلمية». والسرقة في الحقيقة لا تبطل بتقادم الزمن. ومن ذلك ما حصل مؤخراً في «المجر»، حيث أقدمت جامعة «سمالفايس» بمدينة بودابست على سحب شهادة الدكتوراه من رئيس الجمهورية «بال شميت» من جراء اقترافه لسرقة علمية في أطروحة الدكتوراه، وقد كان ذلك قبل 20 عاماً، مما تسبب في دفعه لتقديم استقالته من منصب الرئاسة، بعد أن تظاهر العديد من المجريين (أنظر: سيف المعمري، الجامعة تسحب شهادة الرئيس، جريدة الرؤية، 14/4/2012)، وهم محقون فهم لا يرغبون بأن يكون رئيسهم «سارق» و»كذاب»، وكل الشعوب كذلك.
(4)
وفي ضوء كل ما سبق، أطالب وزارة التعليم بالإسراع بوضع واعتماد آلية دقيقة وصارمة لمعالجة جرائم السرقات العلمية في بيئتنا الأكاديمية وكبحها بلا هوادة، كما أطالبها بالتحقيق في جرائم السرقات العلمية الحالية التي تحدث في الجامعات السعودية، وعلى رأسها القضية الأخيرة في جامعة الإمام، واتخاذ القرارات اللازمة في ضوء نتائج التحقيق ضد كافة المتورطين والمسؤولين، وذلك بأسرع وقت ممكن، والموضوع على فكرة لا يحتمل لتاً ولا عجناً، ويتطلب لجنة تقصي محايدة.
بمنظور استشرافي، أقول إن غياب الآلية الصارمة على مستوى وزارة التعليم فيما يخص «الجرائم العلمية» في الجامعات السعودية ربما يُلحِق بنا ضرراً بالغاً في المستقبل القريب أو المتوسط، ومن ذلك التأثير المحتمل على مسارات الشراكات البحثية والتعليمية مع جامعاتنا، كما أن المؤسسات العلمية والحقوقية الدولية قد تفتح ملفات تحقيق للنظر في فضائح السرقات العلمية، خاصة إن كانت تتضمن أضراراً أو إجحافاً بالحقوق الفكرية بطريقة أو بأخرى. الآثار السلبية المحتملة كثيرة، والضرر متحقق اليوم أو الغد. حافظي يا وزارة التعليم على سمعتنا البحثية والأكاديمية، قبل انهيارها في عيون المجتمع ومؤسسات الأعمال، وقبل تكبد خسائر أكبر! لنتفاءل بمعالجة جيدة من الوزارة.