إبراهيم عبدالله العمار
لما كنت في المرحلة المتوسطة درستُ لأحد الاختبارات، واجتهدت في المذاكرة وكرّست لها وقتاً وجهداً صادقاً، وأثمرت جهودي بأن كان الاختبار سهلاً وأتيت فيه بنتيجة ممتازة، وأسعدني هذا، لكن استأتُ لاحقاً لما أخذ المدرس يفتش منضدتي أمام الطلاب باحثاً عن «براشيم» وأساليب غش. أتذكّر أن هذا آلمني، هذا التشكيك، خاصة وأني لم يؤثر عني الغش ولا الإهمال.
لماذا نشكك ونثبط الناس أحياناً؟ قد نظن أننا نفعل شيئاً حسناً ولكن الحقيقة أن العكس هو الذي يحصل: التشكيك والاتهام هو مثل النبوءة المحققة لذاتِها، وربما يدفع الاتهام البريء إلى أن يفعل ما يشكك الناس أنه يفعله! «خربانة خربانة» كما يقولون. لم أبدأ الغش بعدها، لكن قفز هذا الموقف لذهني لما قرأتُ أبحاث علم النفس الحديث عن طريقة تحفيز الناس، كطلاب المدارس والأبناء والموظفين، ويقول مؤلف كتاب «اللا وعي» لينرد مالادنو أن مجرد توقعك منهم مستوىً عالياً من الأداء يكفي ليعطي نتائج ممتازة.
كيف هذا؟ كيف يكون مجرد أن نخبرهم أننا نتوقّع منهم الأفضل كافياً؟ إننا نوصل توقّعاتنا عن الناس إليهم لا شفهياً، وهم يستجيبون غالباً بأن يعطونا ما نتوقع منهم. إذا توقعتَ من أطفالك أو موظفيك.. إلخ أن ينجحوا أو يفشلوا فإنك ستعطيهم إشارات لا شفهية تدفعهم نحو ذلك، والاختبارات أثبتت صحة هذا، ففي بعض الدراسات مثلاً كانت توقعات المدرسين ذات تأثير عظيم على أداء طلابهم، رغم أن معاملتهم متساوية للكل، ومن أمثلة ذلك أن الباحثين أعطوا المدرسين نتائج اختبار ذكاء لطلابتهم، لكن الطلاب الذين وُصِفوا أنهم موهوبون لم يكونوا موهوبين فعلاً، بل كانت درجاتهم الحقيقية في اختبار الذكاء تشابه غيرهم. كانت النتيجة أن الطلاب الذين رأى المدرسون أنهم غير موهوبين صاروا في عين المدرسين أقل حباً ورغبة في التعلّم، ودرجاتهم تأثرت بهذا. بعدها بثمانية أشهر أعطي الطلاب اختبار ذكاء آخر أظهر شيئاً صاعقاً: 80 % من الذين صُنِّفوا (اعتباطاً) أنهم موهوبون أظهروا تحسناً في الذكاء وصل أحياناً إلى 30 %! إن وصف الطفل أنه موهوب أو ضعيف هو نبوءة محققة لذاتها، ويظهر ذلك في الإشارات اللا شفهية مثل لغة الجسد. وبالمناسبة، تأثير لغة الجسد كبير، وهي فطرية. لغة الجسد لا تُتعلَّم، بل حتى الأطفال الذين يولدون غير مبصرين يُظهرون تعابير وجه مشابهة للمبصرين. قال أحد المسؤولين الناجحين للعالِم لينرد أنه يفضل أن يجتمع ويقابل الناس على الهاتف لكيلا يتأثر بنظرة العين أو يفصح عن شيء بلا قصد!
إذا توقّعت أسوأ التصرفات من الآخرين وعاملتهم بهذه العقلية، الأغلب أن لا يأتي من ذلك إلا نتائج سلبية. وإذا توقّعتَ منهم الأفضل فالأرجح أن ترى منهم ثماراً طيبة.