عبده الأسمري
في بعض القبائل نرى الشيوخ والوجهاء والأعيان يتراصون وينصتون لقصائد المديح ويستلهمون التصفيق الحار من جنبات حاضري المناسبة ويوزعون الكلمات الرنانة بالقبيلة ودورها، بل إن بعض المناسبات تحولت إلى فخر وشرف تجاوز حدود المنطق، وكأن هذه القبيلة قد بلغت الآفاق وعانقت الأمجاد متراقصة على مجد وإرث، لا المكان مكانه ولا الزمان زمانه.
في حفلات الأعراس وولائم الضيافة نشاهد أرتال القادمين بالرقص والاحتفال وطبول المراسيم وأشعار المديح ولا تخلو من الهبات والعطايا من المال والسيوف والهدايا وحتى السيارات، وأيضاً لا ننسى البعارين كإحدى ثقافات الهدايا والتباهي.
حضور هذه المناسبات أمر جيد شريطة أن يظل في دائرة المنطق وعدم تجاوز ذلك بالإسراف، وأنا أيقن أن حالات الكفر بالنعم والهياط التي خرجت إلينا منذ أشهر ما هي إلا أحد مخرجات هذه المناسبات التي تثير الكرم والجود بطريقة تلامس النفاق وتتداخل مع الإسراف والبطر. ما أود التركيز عليه أن الأدوار المأمولة من شيخ القبيلة أو نائبها أو حتى وجهائها الذين يرافقون الشيخ ويجالسونه أعمق من ذلك، ولا بد من أن يكون فيها مبادرات تسهم في خلق أجواء التكافل والتعاون والمساعدة وتفقد الأحوال بعيداً عن ملاحقة الثناء الشخصي ومساعدة المقتدرين.
نحن في أمسّ الحاجة إلى تغييب العنصرية والإسراف والبهرجة التي صنعتها بعض المحافل القبلية، ولكن يجب أن ننظر إلى ما هو أجمل وأفضل ويسهم في شيوع المحبة والتآلف والتعاضد، وسؤالي: لماذا لا يتم الاستفادة من هبات وعطايا الأعراس في إقامة مناسبات تمثّل مبادرات لتكريم شهداء الواجب وأسرهم، فهم من يستحقون الثناء والتكريم والعطاء موظفين معنى المسؤولية الاجتماعية وقبلها التكافل الاجتماعي القويم، وهذا يُوظف أهداف القيادة في بث روح المشاركة والتعاون الشعبي.. لماذا لا تقوم القبائل بإقامة المناسبات التوعوية واستضافة المفكرين والخبراء للحديث عن أخطار الإرهاب والفكر الضال حتى تعم الفائدة لأسر كثيرة أبعدها الإرث القبلي عن التنبه لمخاطر الزمن.
لماذا لا يضع شيخ القبيلة صندوقاً خاصاً لمساعدة الأسر الفقيرة والمعوزين وأشخاص معنيين بتفقد أحوالهم سراً وعلانية لمعرفة أوضاعهم الاجتماعية والاستفادة من المال الضائع من الولائم المهدرة لمساعدة الفقراء والمحتاجين والمساكين.
لماذا لا تكون هنالك محاضرات واجتماعات حتى قبلية تبرز خطورة الجريمة ومساوئها وتوعّي الوجهاء والقادرين والعامة بمغبة الديات والملايين المدفوعة لعتق رقبة تورطت في القتل فمن الأولى الوقاية قبل الخطر.
لماذا لا يكون لدى شيخ القبيلة قاعدة معلومات عامة بأسماء الأسر والإبلاغ عن المفقودين أو الهاربين بجهد شخصي ومبادرة ذاتية حتى يكون عوناً للدولة وسنداً للعدالة ونشر هذا المفهوم كاملاً بين أفراد قبيلته. لماذا لا تُبادر القبيلة بتكريم المبدعين من أبنائها من المثقفين والأدباء والقادمين بالشهادات العليا من الخارج.
نحتاج تغيير الوجه الموجود حالياً ليتواءم مع عجلة الزمن وتحديات الحياة والاستفادة من الهدر والإسراف وبعض ملامح التخلف وتحويلها إلى منبع عطاء وتغذية راجعة على المجتمع وتوظيف مبدأ التكافل والإحسان.
المسألة لا تحتاج توجيهاً، فالمسألة أعمق وهي موضوع ذاتي سيجني ثماره وستشكّل هذه المبادرات وجهاً حقيقياً للمجتمع المتميز الناجح وليكون دور القبيلة دوراً إستراتيجياً في التنمية الإنسانية والاجتماعية والتعاون والتكافل الاجتماعي، ولتكون سنداً وعضداً للدولة في خططها وأهدافها، وأن تُوظف مفهوم المسؤولية الاجتماعية في صورته الحقيقية، وأن تستثمر عائداتها وطاقاتها بالشكل الأنسب والأفضل والأشمل.