د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
بدأت الشقيقة مصر في أوائل ستينيات القرن الماضي خطوات طموحة وجريئة في التصنيع والاكتفاء الذاتي، فأنشِئت مصانع السلع الأساسية، ملابس، وغذاء، وأدوات كهربائية، في كافة أرجاء البلاد. وبدأت هذه المصانع تنتج فعلاً والشعب يستهلك إنتاجها ويقبل عليه. وأنتجت مصر مبكراً ثلاجات وأجهزة راديو بل وتلفزيونات وسيارات أيضا. كان تلفزيون مصر آنذاك يكافئ مثيله الكوري ولا يمكن بالطبع مقارنته بالسنغافوري أو الماليزي لأنه لم يكن يوجد في هاذين البلدين أية صناعة آنذاك. فأين كوريا الآن وأين مصر؟ وأين مصر وأين سنغافورة وماليزيا؟
كادت مصر أن تكتفي ذاتياً من السلع الأساسية ملابس، وأدوات منزلية وغيرها. ولا بد من التذكير بأن هذه المصانع كانت جميعها تحت رعاية الدولة، أي جزء مما يسمى بالقطاع العام. وبالطبع كانت صناعات مصر في بداياتها ولذا لم تكن بضائعها بجودة المنتجات الإيطالية أو الفرنسية أو البريطانية، لكنها كانت قابلة للتطور. ونشطت الجامعات المصرية آنذاك وتطورت لأنها تخدم أهدافاً واضحة محددة ألا وهي دعم الاقتصاد المصري في تطوره السريع. وفي عام 1967م ضربت إسرائيل مصر ودمرت جيشها وأحدثت بها أسوأ تغير ديمغرافي بنزوح عشرات الملايين من مدن القناة إلى القاهرة ومدن الوسط، فقفز عدد سكان القاهرة من بضعة ملايين لخمسة عشر مليون. وذكر المحللون أسباباً عديدة للحرب لكنهم أغفلوا الجانب الاقتصادي والمعنوي المهمين. فالحرب أجهضت نهضة مصر وأضعفت ثقة الشعب المصري في قيادته بل وفي نفسه أيضا.
الصدمة أقنعت المصريين بضرورة ما سمي بـ «الانفتاح»، مصطلح يشبه «القلاسسنوست» في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويعنى بيع قطاعات الدولة المنتجة لمستثمري القطاع الخاص ومنهم أجانب بأثمان بخسة لا تعكس قيمتها الحقيقية، والبعض اشتراها ليقتلها ويتخلص من منافستها للمستورد. اشترى المستثمرون بالطبع المصانع المنتجة المربحة فقط. وبعد أن سمح بالاستيراد دخلت مصر بضائع أطلق عليها المصريون «بتاع بره». وأخذت بضائع بتاع بره من الدعاية ما جعلها مفضلة للمستهلكين حتى ولو كانت رديئة، فأتى ذلك على ما تبقى من ثقة المصريين في قدرتهم على النهوض الاقتصادي أو المنافسة مستقبلا. وبالمقابل تم تحرير الاقتصاد الكوري تدريجيًا وبشكل مدروس وبقيت قطاعاته الأساسية تحت إدارة الدولة، وبدأت الصين تحرير اقتصادها بانفتاح على استيراد المصانع وليس السلع، ولازالت قطاعات الإنتاج الكبرى في الصين في يد الدولة. فما العبرة إذاً؟
أولى العبر هي أنه لا يمكن بناء اقتصاد وطني اعتماداً على الاستيراد فقط وعلى الاستثمار الخارجي، وإنه لا يمكن بناء اقتصاد إلا بقطاعات منتجة تستند على حس وطني أساسه ثقة المواطن بقدرته على الإنتاج وبجودة ما ينتج، وبفقدان هذه الثقة لا يمكن بناء أي شيء. ومن الظواهر الاجتماعية النفسية المرضية المدمرة فقدان الثقة بالمواطن وتزايدها بالأجنبي. وعندما يؤمن بها المسئول يفقد المجتمع أحد أهم حوافزه للتخطيط والإنتاج.
العبرة الثانية هي أنه لا يمكن بناء اقتصاد حقيقي بناء على استثمار الأموال في الخارج مهما كانت أشكال هذا الاستثمار. فالمشاريع التي تبنى على استثمار أموال في قطاعات ناجحة في الخارج، رغم كونها مربحة ومريحة على المدى القصير، إلا أنها خطرة على المدى البعيد، وهي تساعد على بناء الإنسان في الاقتصادات التي تم الاستثمار في شركاتها فقط. وهي قد تبقي المواطن في حالة من الإحساس بالعجز في إنتاج شركات مماثلة. وكما يقال علمني كيف اصطاد ولا تطعمني سمكا، ولا أعتقد أنه يمكن بناء أي اقتصاد اعتماداً على الخارج وخارج دائرة بناء الإنسان. فأولى الدروس من الدول التي نهضت، هي اعتمادها على قوتها الذاتية وثقتها في نفسها ومواطنيها.
العبرة الثالثة هي أنه تلوح في الأفق الاقتصادي العالمي إجراءات «حمائية» غير مسبوقة بمجيء دونالد ترمب وصعود القوى المحافظة في أوربا لسبب رئيس بين أسباب أخرى وهو انتشار البطالة وهجرة المصانع «لبلاد بره» حيث تتضاعف الأرباح نتيجة لرخص اليد العاملة. ولم ترحل المصانع فقط بل رحلت معها التقنيات والمهارات الإنتاجية. الأرباح عاد بعضها بالطبع للدول صاحبة المصانع لكن انعكاسها الاقتصادي كان ضعيفاً لأنها لا توظف المواطنين ولا تسهم في تطوير قطاعاتهم العلمية والصحية بعكس الدول التي هاجرت لها المصانع. النتيجة تكدس الأموال في فئة قليلة من المجتمع، ضعف القوة الشرائية وعجز الاقتصادات عن النهوض بالقوة ذاتها مجدداً. وهذا سيكون فيه تهديد مباشر لصناديق الاستثمار الوافدة بفرض مزيد من الضرائب والقيود عليها لأنها تسهم في القوى التضخمية فقط. وأعتقد أنه من السذاجة الثقة المفرطة بوجود اقتصاد عالمي حر، أو بوجود مؤسسات اقتصادية دولية خارج نطاق تأثير الدول الكبرى. فلا وجدود لطرق مختصرة في الاقتصاد خارج نطاق العلم والإنتاج. فما حك جلدك ظفر يأتيك من الخارج.