عبدالعزيز السماري
منذ ثلاثة أيام كشفت منظمة الشفافية الدولية عن حجم ثروات رؤساء اليمن وتونس وليبيا، في بلدان ما يُطلق عليه بالربيع العربي، وإن كان في حقيقته خريفاً غاضباً وبلا عقل، وقالت المنظمة في تقرير جديد إن حجم ثروة صالح تقدر ب35 مليار دولار، في الوقت الذي لم يكن له أي راتب معلوم، وأوضحت أن ثروة معمر القذافي تقدر ب76 مليار دولار، وقد كان يتقاضى راتباً سنويا 88 ألف دولار..
دائما ما تفضح الأرقام النهايات المأساوية في تلك الدول، والفساد المالي لا يغير النفوس فقط، ولكن يعمي العقول عندما يصل المواطن إلي حافة الإفلاس والديون والحاجة للمأوى، وتتضخم الأرقام من حواليه إلى درجات فلكية، وهو معلق بين الحياة والموت، عندها يُصاب بالفقدان الكلي للعقلانية النفعية، وتساهم عوامل الأمية المعرفية وانعدام الفرص في التعليم والعمل إلى وصوله إلى مرحلة الانتحار.
مهما حاول المثقفون أن يعظموا من أدوار الأيدولوجيا والعصبية والتطرف في إشعال الفوضى، فإنها مجرد استغلال ذكي لأزمات الفساد المالي والإداري، والتي تجعل من تجنيد العامة أمراً سهلاً، مثلما كان تجنيد بعض النخبة لتنفيذ عمليات الفساد المالي أيضاً أمراً سهلاً، وهذه وتلك صور مكررة في معظم الثورات طوال التاريخ، فالفساد والإيدولولجيا المضادة سرطان يقضي على الدولة، ويفتك بأعضائها، ويؤدي إلى تمزقها شر تمزق.
ومن أجل فهم تلك العلاقة الخفية بين المال والفساد، فقد أثبتت الدراسات أن مجرد التعامل مع المال بطريقة مباشرة مدعاة للفساد، ومجرد التفكير فيه أحياناً يمكن أن يقود الناس إلى التصرف بطريقة غير أخلاقية، فما بالك بإطلاق الأمر فيه، وفقا لدراسة حديثة من جامعة يوتا وجامعة هارفارد، قسم الباحثون ما يصل تقريبا300 من الطلاب الجامعيين إلى مجموعتين، وُطلب من المجموعة الأولى لأداء الأنشطة التي ترتبط مع الكلمات ذات الصلة المال، وشارك في المجموعة الثانية في الأنشطة التي كانت لا علاقة لها المال تماما.
بعد ذلك، طُلب من المشاركين اتخاذ سلسلة من القرارات التجارية غير المشروعة، على سبيل المثال أن يتصرف بطريقة غير شريفة من أجل كسب المزيد من المال، ووجد الباحثون أن الطلاب الذين شاركوا لأول مرة في الأنشطة ذات الصلة بالمال أكثر عرضة للانخراط في سلوك غير أخلاقي، يؤدي في نهاية الأمر إلى الفساد المالي، وكانت هذه النتيجة دعوة من قبل الباحثين إلى مزيد من الدراسات عن علاقة المال بالفساد في أمكنة العمل.
لا تختلف صور الفساد من مثال إلى آخر، فعادة ما تبدأ في مستويات خفية، ولا تصل تأثيراتها إلى الإنسان البسيط، ولكن مع تكرار أوجه الفساد المالي وتطور أساليبه تصل أوجاعها إلى عظم المواطن المغلوب على أمره، ويقابلها ظهور فاضح لعلامات البذخ والاستهتار بمقدرات الأوطان إلى مستوى التبجح، إن صح التعبير، وهو ما يفقد الثقة تماماً بين النخبة الحاكمة والغالبية الصامتة، مما يسهل انحرافهم لدعاة إفساد السلم الاجتماعي.
هذا ما حدث في تلك الدول، مع اختلاف ردات الفعل بين الشعوب، فقد كانت ردة الفعل في تونس أقل إيلاماً نظراً لارتفاع معدلات التعليم، بينما كانت ردة الفعل الشعبية دموية ومأساوية في الدول التي تعاني من الأمية المعرفية والعصبية القبلية والتطرف الديني، لذلك لا بد من أن ينتصر العقل على العاطفة والغرائز غير السوية، فالعلاقة المباشرة بالمال من الممكن أن تُنهي حالة الاستقرار في الدول، ولهذا السبب تحرص الدول المتقدمة في الغرب والشرق على محاربة الفساد المالي وعلاقته بأماكن العمل وسلطة القرار.
عندما تزكم الأنوف من أخبار وروائح الفساد المالي، فاعلم أن تلك دعوة ملحة في ألا تنام الجفون عن شواردها وأخبارها، بل تستدعي اتخاذ الإجراءات المؤلمة من أجل فصل إدارة المال عن الإدارة، ثم رفع مستويات الشفافية والرقابة المالية إلى أعلى درجة، والله ولي التوفيق.