د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
هناك في مرتبع جميل من بلادنا الغالية, في منطقة الحدود الشمالية حيث المياه العميقة التي أبت أن تزاحم نداوة أهلها، وحيث الوعي المتفوق بأن الثقافة تسوق التطور إلى الطرق التي من شأنها التأثير ليس في خلصاء الأدب وأصحاب الصناعة فحسب؛ بل في دوافع الناس عامة وميولهم وتصوراتهم, وحيث الربط المبهر بين الطبيعة المحلية وتطوير الثقافة, علمتُ ذلك وأيقنتُ واقعه لما ارتقيتُ إحدى منصات صناعة الثقافة بمفهومها الشامل في النادي الأدبي الثقافي في مدينة عرعر في منطقة الحدود الشمالية بدعوة وارفة من النادي لإحياء أمسية شعرية مساء الثلاثاء الماضي، وفي ذاكرتي الأدبية الخاصة جداً دائماً ما يتولد عندي إصرار بأن الأمسيات الشعرية ما هي إلا مشاريع نقد للشعر الحديث في ظل ارتكاسات في الذوق وخفوت في القرائح؛ ولا شك أن أهداف النادي الفتي «وافرة المقاصد في الشأن الثقافي الأدبي والاجتماعي؛ كما هي دائماً بوارقه وبروقه وفق ما تبينتُ مما كُتب عن نشاطاته, وما ينطق به إعلامه الصغير المجتهد جداً, وما أعلنته لي أروقته وقاعاته النامية، ومكتبته الوافرة، ولجنته النسائية الحافزة التي تحتضن شموس مجتمع المنطقة وفكر نسائها ومواهبهن, وتلتقط كل عقل جدير ومثالي، مما أسهم في حضور لافت للحركة الممهدة لمستقبل ثقافي نسائي مضيء بإذن الله. ومن اللافت أن النادي تأسس في عام 1428؛ وكان التأسيس بتوجيهات ملكية كريمة آنذاك، كان فيها استشراف واقع الوعي والرغبة في المنطقة كافياً لإدراك الشرف التاريخي لوجود تلك المنصة الثقافية النامية، وخلال عشر سنوات اكتملت تجربة التأسيس باقتدار، وأشعلت منابر الثقافة وحُّفّزت الأجناس الأدبية لتتصدر مساءات النادي، واستطاعت دوائر النادي الأنيقة أن تحتفي بالعقول الشمالية الواعدة، ومنحتهم مفاتيح الانطلاق، وجعلتهم يتواشجون مع مؤسسات الثقافة في بلادنا، ويدندنون على معازف وادي عبقر، وكل المنصات التي تحتضن دفقات فكرهم ووجيب وجدانهم، وتوج ذلك كله بمبنى أشم وفق أحدث التصاميم هو أول المباني المنجزة للأندية الأدبية على مستوى الوطن وإن كان النادي آخرهم تأسيساً؛ وقد ذكرني ذلك الإنجاز بقول المعري..
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُه
لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
ولقد كنا وما زلنا نتوق إلى دعم الإنتاج الثقافي عامة والأدبي خاصة من قنوات الثقافة النامية وتتصدرها الأندية الأدبية حتى ندلف من خلال تلك البوابات الثقافية الصغيرة إلى البوابات الكبيرة، لتصبح الثقافة لدينا أعمالاً مؤسسية تتعانق وتتعالق؛ فالساحة الثقافية اليوم مفتوحة أمام جميع الفئات, لنشر المبادئ المُثلى, وشحذ الهمم للنهوض، كما أن قنواتنا الثقافية تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان, وقطوف الفكر, وشذرات العقول, وكنوز الإبداع والفن، فلابد من انعطافة مفصلية في تمكين الأندية الأدبية من استثمار واقع مجتمعاتها المحيطة، وأن يكون التعامل مع واقع الثقافة والأدب احترافاً؛ وله مسارات أكاديمية في التخصصات الجامعية؛ فإدارة الشأن الثقافي والأدبي تتطلب جوانب تخصصية مستقلة، وكفاءة ثقافية مما يعزز أهداف الثقافة المنشودة للأجيال الحاضرة والقادمة؛ كما أن عودة الأجيال المثقفة تحتاج إلى وقفة من الذات الرسمية، ومن الذات المجتمعية، فيحدونا الأمل أن تتحقق من خلال الأندية الأدبية صناعة ثقافية يراهن عليها العالم من حولنا؛ مضمونها الرؤية العميقة, والاعتدال والعدل واللغة الهادئة, والصوت العاقل.
شكراً للنادي الفتي في عمره والعريق في واقعه وبرامجه، وشكراً لرئيس النادي الأستاذ ماجد المطلق الذي صنع قيادة ثقافية أدبية أنيقة عريقة، وأبارك للأصائل في النادي سباقهم الفوار..
جئتُ الشمال على طير الهوى الصادي
ريح الشمال معي والشوق للنادي
يا نادي الفكر تُسبيني منازلُكم
فأصطفي البوح من أعماق إنشادي
يا نادي الفن كم في الشعر من حَذِق
يُطرّزُ القول في أبرادكم شادي
يا نادي الهمة الشماء أسرَجَها
خيولَ حفز وإبداع وأمجادِ
الغيثُ كم تُرقِصُ البستانَ نغمتُه
أتى على موعد أو دون ميعاد
لا أسكتَ اللهُ للآداب منبرها
وصوتُها موطني والعزفُ أمجادي