أحمد العتيقي
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}
نعم... هذا الارتباط بين الّلغة العربية والقرآن الحكيم قد حيّر الباحثين ولهذا لا يمكن أن يدّعي شخص بأنّ القرآن من كتابة إنسان مهما بلغت ذروته بالعلم.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِير}
فقد فصّل العليم آياته ثمّ أحكمها ببلاغة لغة الضّاد وجمالها وفصاحتها وجعل عربيّته من الصّفات الملازمة لهذا الكتاب الذي لم ولن تعرف البشرية كتاباً بهذه الحكمة والبلاغة والفصاحة، فكما أُحكمت آياته من لدن حكيم خبير بلغةٍ أحبها الله وعزّزها، فلا يمكن أن يُنكَر فضل القرآن المجيد للحفاظ على الّلغة العربية، لأنّ جميع الّلغات تلاشت وذابت بين سائر الّلغات واختلطت المفردات والكلمات والمعاني وتشعّبت إلى لغاتٍ شتّى ونادراً ما تجد لغة حافظت على أسسها كما كانت منذُ القدم إلا الّلغة العربية المنتشرة في الجزيرة العربية آنذاك.
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}
تكرار صفة *العربي* للقرآن جاءت مرافقة مع الّلسان، وهذا دليلٌ لعالميّة القرآن والإسلام لأنّها لم ترد كصفةً للمخاطَبين ولم تخصّ قوم دون قوم ولا تقصدنا نحن أبناء العروبة وإنّما أراد الله في الذكر الحكيم أن يصف القرآن وخواصه الفريدة وكذلك أراد ربّ العزة أن يعرّف مكانة الّلغة العربية وأشاد للعالمين جميعاً بمنزلة الّلغة العربية وربطها بالإسلام حيث جعل للمسلمين لساناً يعرّب عبادتهم ويوحّدها في الصلاة وتلاوة الكتاب والعقود وكثير من أحكام دينهم مهما اختلفت قوميتهم، فهذا التعبير أحد أسرار العربية وعظمتها وتوثيقها بالإسلام وثاقاً محكماً لا يدرك معانيه إلا من تبحّر بعلوم الّلغة والقرآن.
{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
إذاً لا يمكن استخراج الأحكام ومعرفة الأمور الدينية إلا بإتقان ومعرفة القواعد الّلغة العربية فصارت معرفتها من العلوم الدينية لأنّ لها خصائص عديدة لسعتها وتعدّد مفرداتها حيث من الممكن أن يتغير المعنى بمجرد تغيير حركةٍ أو حرف مشابه لحرف وقريب لفظه في مخارج الحروف مع جمال معانيها وجودة تعابيرها وتفنّنها في الإيجازِ والإشارة ممّا يطول شرحه عند باقي الّلغات، وعذوبتها على الألسن حيث تُطرِبُ سامعها وتسهّل الحفظ لهُ.
لسان حالها تصف نفسها كما قال حافظ إبراهيم:
وَسِعْتُ كِتَابَ اللهِ لَفْظاً وَغَايَةً
وَمَا ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ
فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لَمُخْتَرَعَاتِ؟!
أَنَا الْبَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَلْ سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي
فبعد ظهور الإسلام اتّضح للمسلمين أهميّة الّلغة العربية ولزوم معرفتها لهدف معرفة دينهم وصار العرب أكثر همّة لحفظ وتعليم علوم قواعدها، ولهذا بعد توسّع الدين الحنيف ودخول الأقوام المجاورة إلى الإسلام مثل الفرس والروم والأتراك والأقباط، أخذ العرب الحذر من ضياع لغتهم وحرصوا على أولادهم أن لا يقعوا تحت تأثير الأجانب بحكم اندماجهم وصاروا يفكّرون بالأمر بجديّة أكثر، فوضع أبو الأسود الدؤلي علم النحو بأمر وتعليم من الإمام علي وتوسّع بعدها بهدف تحكيم أسس الّلغة.
نعم... هكذا جاهد الآباء والأجداد واهتمّوا بسلامة لغتهم لأنّهم يرونها مجدهم وهويّتهم ووطنهم الذي ينتمون له، فكانوا يستعيبون من لم يقوّم لسانه على العربيّة ويسمّون كل كلامٍ بغير العربيّة، هوَ لسان أعجميَّ.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيّ}
وتوّجت الّلغة العربية بهذا الفخر بأنّ من أراد إدراك معاني القرآن ومفاهيمه، فلا بدّ له أن يسعى لذلك عن جهة معرفة لسان العرب ولا سبيل لغيره أبداً.
{لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين}
تدلَّ *{لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين}* بأنَّ كافّة الّلغات غير العربية ينقصها جودة البيان، فالكلام المبين ذلك الذي لا اعوجاج فيه من عُجمة أو كلام دخيل عليه أو نقص لإخراج الحروف، حيث لا تجد عيباً في الّلغة أبداً مفهومة، سلسة لا تخرج عن أسسها ولا قواعدها، كلّ مفردة تنتمي لجذورها، بعيدة عن التشتّت، منسجمة، كالدّر المنظوم وكالآلي منثورة، هو اللسان العربيّ المبين، لا يتعب مستمعه، تطرب له الأذن وتعشقه قبل العقل، لا يتقبل المفردة الغريبة،، ولا يشتمل هذا المعنى على النطق والمعاني للمفردات الغنيّة ولا يطلق إلا على لغة الضاد دون غيرها، ولهذا أكّد علماء الّلغة بأنّ تعلّم اللّغة العربيّة يقوّم الّلسان ويجعله مُستقيماً غير ذي عوج، فهو أكثر الألسن وضوحاً ولا تجد فيه مبهماً من القول أو عجمة في البيان.
وبعد شروق شمس الإسلام أصبحت العربية أكثر الّلغات انتشاراً وكُتب بها الكثير من الكتب الفلسفية والاجتماعية والهندسية والفلك وشملت أيضاً مجال الطب والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء كما تأثّرت بها العديد من الّلغات المجاورة والبعيدة فاستعارت منها بعض مفرداتها وحروفها حيث بعض هذه الّلغات فشلت أخيراً في محاولاتٍ عدّة وتشكيل فِرَق وجمعيّات متخصّصة لاستخلاص لغتهم من العربية فلم يجدوا إلى ذلك من سبيل ولم تزل المحاولة جارية دون جدوى!!
صنّفت العربية ضمن المراكز الأولى عالميّاً من حيث الأهمية والأصالة والانتشار فهيَ من الّلغات السِتّ فِي منظّمة الأمم المتحدة ويحتفل بها عالميّاً في 18/ديسمبر من كلّ سنة.
بعدما تعرّفنا على أهميّة الّلغة العربيّة وميّزاتها على سائر الّلغات، سوف نجد أنفسنا محاصرين من عدة أسئلة مرغمين على الإيضاح بالأجوبة من طفلنا وعقولنا إن كان هناك ثمّة احترام للعقل ورعاية حقّ الطفل!!
نتطرق لبعضها حسب أهميتها في حياتنا لمجتمعنا العربي.
أولاً: نظراً لمكانة الّلغة العربية عالمياً كما وصفوها لعذوبتها وقوّة قواعدها وتزاحم المعاني والمفردات بها، وكثرة إقبال سائر القوميات على دراستها و....
- فلماذا لا يسمح للعربي المسلم الذي تسمّى بها وانتسب لها، أن يمارس الدراسة بها طبقاً للمواثيق الدولية والدستور المصدّق عليه للدولة ؟؟
- وهل هناك ربط بين التفوّق العلمي والدراسة بلغة الأم؟
- لماذا لا يسمح للتعليم بالّلغة القومية للشعوب المتعايشة معاً يجمعهم اسم الوطن ولم يطمعوا بأكثر من حقّهم المعترف فيه قانونيّاً بهدف تأكيد الهويّة بجانب العلم كسب العلم؟
لابدّ للتنويه بأنّ أغلب الاستفسارات المطروحة هنا ليس من الضروري أن نجد لها جواباً حاسماً ولكنَّنا مع ذلك نتركها مطروحة على طاولة النقاش والاستفسار حتّى نزيح عنها غبار النسيان والتجاهل لعلّ يوماً يعالجها من يهمّه الأمر، نطرحها بصيغة سؤال وهي تحمل عشرات الأجوبة لأولي الأبصار في طياتها، وبطرحها نأمل أن نستردّ حقّاً مشروعاً قد أضاعوه وتناسوا عنه ونُمِيط اللثام عن أمورٍ لكي ينكشف المزيد من الملامح الحقيقية لهذا الشعب الذي علّق آماله على شعارات المندوبين المتخاذلين الخاذلين لشعبهم:
فكما قال المتنبّي:
نَحْنُ أدْرَى وَقد سألْنَا بِنَجْدٍ
أطَوِيلٌ طَرِيقُنَا أمْ يَطُولُ
وَكَثيرٌ مِنَ السّؤالِ اشْتِيَاقٌ
وَكَثِيرٌ مِنْ رَدّهِ تَعْليلُ
السؤال الثاني:
- ما هو دور الإنسان العربي إزاء لغته وهويتّه وخاصّة المثقّف العربي الذي يحمل على عاتقه مسؤولية تتناسب مع حجم علمه وتأثيره على ما يحيطه من أسرته والمجتمع.
معرفتنا لأهمية الّلغة التي هي أهم الأركان لهويتنا يغرس فينا الإيمان أنه لا غنىً لنا عنها، ولهذا علينا الاعتزاز والتكلّم بها وليس بغيرها من الّلغات كما نشاهده لدى بعض أفراد المجتمع، لأنَّ الأمّة التي تجهل وتهمل لغتها، بالواقع إنّها تحفر نهايتها، وتسمح لطغيان بقية الثقافات على تلال أسس ثقافتها المندثرة، فما أُهمِلَت لغة شعبٍ إلا وقع تحت وطأة التهميش والذلّ، وإذا استهدفت لغتهم للتدمير كان نهاية أمرهم الاضمحلال والضياع وسرعة خطوات مجدهم نحو الإدبار والأفول، فيصبحون نهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام فيسهل الطريق لاستفحال المستعمر في فرض لغته عليهم فيُشعرهم بقوّته وعظمته ليرهبهم حتّى يشرع بذوبانهم تدريجيّاً ويزقّ بلغتهم في السجن كما يغتال ماضيهم ويرمي بجسمه المتلاشي في زوايا النسيان وبذلك يقتل فيهم الحسّ الوطني والمروءة القومية ليصبحوا دون إرادة !!
إليكم ما قاله أجنازيا بوتينا شاعر صقلية :
(ضع شعباً في السلاسلِ جرِّدهم من مَلابِسهم
سُدَّ أفواهَهم..
لكنَّهم ما زالوا أحراراً !!
وجَوازات سفرِهم
والموائد التي يأكُلون عليها
والأَسِرَّة التي يَنامُون عليها..
لكنَّهم ما زالوا أغنياء!!
إنّ الشعب يفتقر ويُستعبَد
عندما يُسلَب اللسان الذي
ترَكَه له الأجداد وعندئذٍ
يضيعُ للأبد)
ولهذا فقد أصبح إتقان لغتنا من أهم الواجب علينا وصيانتنا لها ومحافظتنا عليها في إبعاد الشوائب والدخيلات الأجنبية العصرية وحيث البعض منها المقصودة لتدميرها هو أداء لحقوق لغتنا الواجبة، ويجب استخدامها في كلّ المجالات للحياة.
أيُّها العربي..
لا تتردّد أو تخجل من التكلم بلغتك، فلا تحتوي بداخلها ممّا يثير فيك الخجل، دوّن أفكارك بها واستخدم مفردات مهنتك بحروفها لِتُوصِلَ المعلومة وكذلك في استخدامك لبرامج التواصل الاجتماعي عليك أن تكتب بلغة الأم وليس بلغاتٍ أخرى، لأنّنا في هذه البرهة الزمنية الحرجة يلزمنا خدمة لغتنا لإثبات وجودنا حيث تتصارع الحضارات وتسعى القوة المهيمنة في السّاحة لطمس الثقافات المغلوبة على أمرها بهدف اندثارها والتهامها وتفتيتها تماماً.
الغزو الثقافي أخطر بكثيرٍ من الاجتياح العسكري على الشعوب الأقلية الواقعة ضمن دائرة سلطة المحتل التوسعية، ولهذا فإنّ قيادات الطامعين تعيَ تماماً أنّها لا تواجه مجرد كلماتٍ من النثر والشعر أو قواعد أدبية ورواياتٍ تراثية، إنّما ترى نفسها بمواجهة ما ترمز إليه تلك الكلمات بمعانيها التوعوية وتقوّي صمود أهلها لتحكّم جذورها المترسخة في ذات الشعب لتعكس تاريخهم وثقافتهم المستهدفة، فلهذا تسعى لتهميش هذه اللغة للسيطرة على مقدّراتهم وثرواتهم بسلبهم الاستقلال الذاتي والضياع الثقافي وتزلزل صلابة الموقف حتّى يصبحوا لقمة سائغة لمتناول الأيدي لخدمة عجلة الإنتاج لإشباع مطامعهم التوسعية.
فهل تهمل لغتك بعد معرفتك بأهميّتها الاجتماعية والثقافية والسياسيّة والتاريخية لإثبات وجودك حتّى يُعطىَ لك ما سُلِبَ منك بالأمس!!