فيصل أكرم
حين لمحتُ كتابة الشاعر عبد القادر الحصني على الغلاف الخلفي لمختارات شعرية، صدرت أخيراً، عنوانها (سماءٌ في قفص) للشاعر بيان الصفدي.. طلبتُ من صديقي الكبير عبد القادر أن يزودني بنسخة من هذه المختارات، مع أني لا أعرف بيان الصفدي شخصياً ولم أقرأ له شعراً ربما، غير أن لذلك عندي ثلاثة أسباب: أوّلها ثقتي بذائقة عبد القادر الحصني الشعرية، وثانيها احتياجي لقراءة الشعر.. والشعر فقط.. فقد أمست كل القراءات عدا الشعر عبثاً، وثالثها، وربما هو السبب الأكثر تحريضاً، أن اسم بيان الصفدي ليس غريباً على ذاكرتي، وازددتُ تأكداً من عدم غرابته حين طالعتُ سيرته الذاتية وفيها أنه كان أحد كتاب الأغاني في برنامج الأطفال (افتح يا سمسم).. يا الله.. كم نحن – وليس أنا فقط – بحاجة ماسة للرجوع إلى طفولة ممتعة نستذكر فيها بعض مشاهد من (افتح يا سمسم) بعد انغلاق كل غابات الدخان المؤلمة علينا وعلى من حولنا.!
لمعت في مخيلتي – وربما في ذاكرتي – هذه العبارة التي جعلتها عنوان مقالتي (طفولة لا يسعها قفص) وأنا أتأمّل عنوان المختارات (سماء في قفص) وتبين لي أن عنوان المختارات هو لقصيدة في أحد دواوين بيان الصفدي (ما لا يعود).. ولم يخب ظني وأنا أبحث عن طفولة هذا الشاعر المخضبة في (افتح يا سمسم) بين صفحات ديوانه، أو المختارات من دواوينه الكبيرة.. فلقد عثرتُ على أشياء من بحثه هو عنها تحت عنوان (مسافات) ضمن ديوانه:
(يا إلهي. .
كم أحتاج من الأدراج
. . و السلالم
. . و الحبال!
كم أحتاج من الأحذية
. . و الأزقـَّة
حتى أصل إلى طفولتي)!
وفي (الفوضى الجميلة) ضمن ديوانه (دقات القلب) الصادر عام 1984 يقول:
(فجأة يحدث الذي يأتي، ولا ننتظره
أو الذي ننتظره، ولا ينتظرنا
يرمي بالصور والغبار
ويجلس على الرصيف
ويتفتـَّح كالبرعم
الذي لامس الضوء أول مرة
لهذا يدحرج الطفل سنواته كالعربات
وينادي:
من الذي دخل الحديقة
ممسكاً سورَها بيديه)؟
وبعد، فبيان الصفدي شاعرٌ من شعراء الإنسانية، أعطى للطفولة المتفتحة شعراً ونثراً ساهم به في تشكيل ذاكرة جميلة، من السبعينيات الميلادية عبر أعمال تلفزيونية وكتب كان أحدها بالاشتراك مع شاعر الطفولة والعروبة الراحل سليمان العيسى.. ولا يزال يعطي؛ أما في شعره الآخر - لكبار القضايا المنغلقة – فهو يستحضر طفولة لا يكون الإنسان إنساناً إلا باستحضارها - وإن لم يتقصّد الاستحضار - في دواوينه الخمسة: ويطرح النخل دماً – 1976، دقات القلب - 1984، ما لا يعود - 1998، جنة صغيرة - 2002، كتابها - 2011 وكان الشاعر الراحل ممدوح عدوان قدّمه في ديوانه الأول (ويطرح النخل دماً) واصفاً إياه بأنه: (يتلمّس غضب الفقراء الموقوت، يحلم بالثورة، يشهر قصائده في وجه العسف، ينزف من قلبه الوطن). أمّا في هذه المختارات الخارجة للتو من المطبعة، فقد ختم الشاعر عبد القادر الحصني كلمته فيها متوجهاً بالقول للشاعر بيان الصفدي: (شكراً لما تضيفه هذه المختارات إلى الشعر العربيّ من حداثة وأصالة/ من حرّيّةٍ ومسؤوليّة، تحلِّق بأجنحتهما طيورك الملوّنة إلى آفاق إنسانيّة عالية).
أما أنا فلا يسعني بعد كل ذلك سوى الشكر للشعر.. ولطفولةٍ نحلم بأنها لا تزال خارج كل الأقفاص، نبحث عنها في دواخلنا حيناً وفي قصائد بعضنا أحياناً، ونجدها.. دائماً نجدها حرّةً متسامحةً بريئةً منطلقةً بسموّها نحو أعمق نجمةٍ لا تزال تضيءُ ضمائرنا، حتى وإن كانت سماءُ أشعارنا في قفص.