ليست الرسائل إلا أحاديث من الأدب بكافة أشكاله وألوانه، لذلك فإن في الرسائل حيوات متعددة، ونيات كثيرة للأدب، بيد أن هذا الأدب أُهمل حتى كاد أن يندثر، أي نعم أن الرسائل ما زالت موجودة بما تحمله من خواص ظاهرية، إلا أنها أصبحت مقولبة في قوالب عملية، ومجهزة مسبقاً لكيلا تعطّل ركضنا في دورتنا الزمنية، فصارت تأخذ الشكل الظاهري فحسب من الناحية العلمية والعملية، إلا أنها تفتقر للروح والأدب، رسالة خالية من الحياة!
وصلت رسالة أستاذنا الدكتور إبراهيم التركي محملة بالشوق والسؤال إلى صديقه الدكتور عبدالله الغذامي، فجاء رد الأخير حاملاً مثقلاً بالمعاني النابعة من حب وإيمان صادق لا يتزعزع عند حدوث البلاء، بل يزيد، حتى ليبدو وكأنه أكثر اطمئناناً على نفسه من صاحبه ومحبيه.
رد الدكتور عبد الله في يوم الإثنين الموافق الثالث من تشرين ثاني - نوفمبر «العاشر من شهر الله المحرم» فكتب الآتي:
«شكراً على كريم سؤالك وسؤال الأحبة في الجلستين... أما أنا فإني مقبل على عملية استئصال الكلية اليمنى، يوم الجمعة بحول الله، وإني أقبل عليها مستشعراً أني بظل من ظلال الرحمن، هي عملية لم تكن لتخطر على بال أحد، لا أنا ولا أطبائي، وصارت في لحظة يتعجب منها كل طبيب قابلته في لندن... إلخ» حيث راح الغذامي يسرد لصاحبه ما طرأ على حالته الصحية حتى ختم رسالته بعد ثلاث وصايا أوصى بها صاحبه قائلاً: «تحياتي لكم وأسأل الله أن ينفحكم بنفحاته، وكم هو عظيم أن تشعر أن ربك يحبك».
لقد صدق الدكتور إبراهيم في يقينه حين أيقن أن المريض هو من يراقب السرير لا من يرقد فوقه، فحين قرأت تلك الرسالة التي رد بها الغذامي على رسالة صاحبه تناهى إلى عقلي يقين إيماني أضاء الكثير من ردهات الحزن الذي تسببه فيه ما أحل بالغذامي، لم يخفي شوقه لمن يحبهم ويحبونه، ولم يهرع إلى تخويفهم ببكاء وشكوى، بل كان مطمئناً آمناً ينقل الخبر وكأنه يرويه عن أحد ما وليس يعنيه في شيء. لقد ملأ رسالته بإيمان كبير وضعه الله في قلبه، فرفع به خوفه وأزاح قلقه، ثم قدم في ثنايا رسالته دروساً أخرى حين أوصى صاحبه بأن يحفظ سره ويخفي مرضه، لأنه كان في وضع لا يحتمل الزيارات، وكثرة السؤال. إن ما قدمه الصديقان في تلك الرسائل الخمس هي دروس محتملة للحياة، ومعاني هائلة ذات مد مرتفع. لقد قرأت في رسائلهما معنى الصداقة والشوق والإيمان والحزن والحب، لقد أذهلني اكتظاظها بالأدب، والبلاغة الحاضرة فيما بينهما، وهما اللذان كانا يتخاطبان دون أن يعي أحد منهما أن هذه الرسائل ستكون دروساً لغيرهما في يوم من الأيام.
- عادل بن مبارك الدوسري
aaa-am26@hotmail.com
@ AaaAm26