رمضان جريدي العنزي
ثمانون عاماً وفيروز هي هي، امرأة تأخذنا إلى بحيرات الماء والضوء والخضرة والبجع، ترحل بنا إلى حافات المدن، وصيرورة النص واللحن، تمخر بنا بأشرعة ملونة، نحو الطبيعة الخيالية المطلقة، تهزنا بأرجوحتها ليأخذنا الحلم نحو الأشياء والقمر والبحر وتضاريس الطبيعة والثلج والعشب والجسر والظل والطير والشجر، تتوغل بنا هذه الفيروز، تدفعنا إلى مؤشرات التخيل اللامحدود، مخزونها الحسي عميق، متجذرة بالإبداع، حاضنة للدفء، فيها وداعة أنثى وهدوء وثقة وثبات، مثل غمامة ونورس، وبحر ومركب، وحقل حنطة، وعريشة عنب، غناؤها اشتعال واضح على مناطق الحس والشعور، لصوتها نكهة يملأ النص واللحن والمكان، هي الأفضل على الأطلاق، وإن كل ما هو شبيه لها مجرد نسخ مقلدة.
ثمانون عاماً وفيروز لم تتصحر ولم تجف ولم تذبل، مثل وردة يانعة، لقد نجحت في أن تجعل من نفسها حية وحاضرة ودؤوبة، تنقل خطواتها بثبات ويقين، كانت تدري، ونحن ندري بأنها وصوتها يعتلي قلب التوتر، تتوهج بنا حين يجيء الصباح، وحين يحل المساء، والطرقات نيون، مختلفة هذه الفيروز، مثل ترنيمة أم، وغفوة رضيع، وطيف مطر، وأنفاس فراشات يفرحها الندى، تشاكس بنا وجه المرايا، ونرحل مع صوتها إلى أرض الطير والخميلة والنهر والزهر، مجرد أن تغني فيروز تحرك في النفس الفاظ اللغة، تجذبنا نحو التخيل دون أن تدع المجال كي تفقد الروح أتزانها، تحمل في غنائها لبنان بكل تجلياته وامتداداته وأطيافه وتنوعاته كشريان تجود عليه بالحياة والسمو، تحاول أن توحد تفاصيل الجغرافيا فيه بين الجبل والسهل والهور.. تحاول أن تربطه عربياً حد التماهي، تحمل لبنان العربي في خافقها بتواشيحه وياسمينه ونهره وضيعه وشبابيك بيوته وشوارعه وقناديله المعلقة وأعمدته الرومانية، تحاول أن توقفه من الانجراف نحو الهاوية والدم والتجزيئة، أو أي شيء يسد بابه، تحاول أن تنتشله من واقعه المؤلم، وقاعه الجريح، إلى ناصية العطر والجمال، ومصبات المياه، وعلى مر الأزمات التي مرت بلبنان كانت فيروز أيقونة للسلام والتوحد والوئام، لنضجها واكتمال خصوبة الفهم في منظومتها الحسية والاستشعارية، لم تحابِ أحداً على حساب لبنان، ولم تصطف ناحية أحد، كونها ذائقة ذات إرث فني فريد لن يتكرر، ولكونها تكره الحروب وطواحينها الكارثية المريبة، وترى أن الحروب جوع وحزن وأسى ونسفاً لمكونات الحياة والفرح، كيف لا وهي التي عايشت نيرانها العاصفة، لهذا قامت بدور الموحدة والمتبصرة والناهضة بالهمم، لذا عمدت من خلال سنينها الطويلة أن تكون جامعة للجمال والبهاء والسلام، وقد أجادت في جمع الذوات المهملة التي كانت ضحايا للأصوات النافرة النشاز، لتحرز انتصاراً في إخضاع الجميع بأن يعلنوا على لبنان الحب والسلام والوئام، دونما خوف أو توجس أو ريبة.
رجعت الشتوية يا فيروز، وسيرجع لبنان عربياً كما هو، سنداً وعضداً وأخاً، بجهد قيادتنا الرشيدة الخيرة الحريصة على لبنان أرضاً ونهراً وتاريخاً وشعباً وحكومة، وسنظل نتذكرك، ولبنان، وقصص الهوى، وجسر اللوزية، وجيران القمر، والعود الرنان، وليال الشمال، والثلج حين يهطل الثلج، والعشب حين يغطي الدارج، وبيروت التي كانت، وبيروت التي ستكون.