د. عبدالحق عزوزي
هناك مشكل داخل العلوم السياسية بصفة خاصة والعلوم الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة وهي تلك المتعلقة بالمنهجية في البحث العلمي والتي لا يمكنها أن تنفك عن تمثيلية سببية وموضوعية للحقيقة، لأن ربط الأسباب بالمسببات مسألة مصيرية في مجال العلوم أيا كانت والالتزام بالموضوعية والحيادية أمر لا مفر منه لتكون النتائج نتائج يمكن أن تعمم وتطبق. فالمعنى العلمي الحديث للنظرية حتى السياسية منها هي التي تربط ما بين الجانب النظري وبين الواقع التجريبي والمعاش. فالنظرية المنفصلة عن الواقع ما هي في الحقيقة إلا فلسفة، أي مجموعة مقولات غير نابعة أو متفاعلة مع الواقع وأما النظرية العلمية فهي تلك التي تكون في علاقة جدلية مع الواقع تتطور به ويتطور بها، ويكون الواقع هو المحك العملي لتأكيد مصداقيتها وعلميتها... فهذا الإطار الفكري الذي يفسر مجموعة من الحقائق العلمية، ويضعها في نسق علمي مترابط، يقوم في غالب الأحيان بالاستعانة باستطلاعات الرأي التي تعطي للمتضلع في العلوم السياسية أدوات العمل.. ومثال بسيط لتقريب المسألة إلى القارئ العزيز: أزيد من 90 في المائة من أطروحات الدكتوراه التي نناقشها نحن الجامعيين لطلبتنا في الجامعات الغربية تكون قائمة في منهجيتها على نتائج استطلاعات الرأي في مجال التخصص المعين؛ ولكن عندما نستحضر ما تكهنت به مؤسسات استطلاع الرأي الأمريكية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تنتابنا الحيرة والشكوك... وهذا ليس خاصا بأمريكا، فعدم التوفيق في توقع النتائج رصد كذلك في استطلاعات الرأي حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من عدمه، إذ كانت ترجح الخيار الثاني، الأمر الذي لم يحصل، إلى جانب فوز حزب المحافظين في الانتخابات البرلمانية البريطانية العام الماضي عكس توقعات الاستطلاعات.. وهناك مراكز استطلاعات كثيرة ووسائل إعلامية أمريكية كبيرة، على رأسها «سي إن إن» و»إم سي إن بي سي»، وصحيفتا واشنطن بوست ونيويورك تايمز، كانت ترجح فوز كلينتون في الانتخابات.. وبلغت هذه المنابر الإعلامية درجة كبيرة من التأكيد على فوز كلينتون، وأعدت برامج تحدثت فيها عن طبيعة رئاسة «السيدة الاولى سابقا»، وأي نوع من التركة ستتسلمها من بارك أوباما، وكيف ستكون سياساتها الجديدة، ولكن هاته الاستطلاعات أصبحت ضالة ومضلة وهو ما يثير ألف تساؤل..... ونفس الشعور انتابني وأنا أتابع الانتخابات الأخيرة التي وقعت داخل الحزب اليمينالفرنسي التي عليها تقديم مرشح يميني واحد للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في ماي 2017 إذ كانت كل استطلاعات الرأي تعطي الفوز لألان جوبيه فإذا بالمفاجأة تصدم كل أولئك الذين يثقون في استطلاعات الرأي إذ فاز فرنسوا فيون، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، بالدورة الأولى من الانتخابات التمهيدية لأحزاب اليمين....
ونحن نتحدث عن الحياة السياسية الفرنسية نشير إلى ما تفضلت به مراكز استطلاعات الرأي إلى تدني شعبوية الرأس الحالي فرانسوا هولاند بعدما ألف مؤخرا كتابا سماه «الرئيس لا يجب أن يقول مثل هذا الكلام...» وهو كتاب أسال ولا يزال الكثير من المداد في الأوساط الفكرية والسياسية والصحافية، فلا حديث في الصالونات الباريسية إلا عن توقيت وجدوى إصدار كتاب بمثل هذا المحتوى الذي يقوض احتمالات بقاء اليسار في قصر الإليزي ولم يبق للانتخابات الرئاسية إلا أشهر معدودات إلى درجة أن أحد المستشارين في الإليزيه قال بان الحزب اليوم هو «شبيه بمن يلعب الموسيقى على سفينة تيتانيك...» فالحيرة التي أصابت مستشاري الرئيس ووزراءه وأعضاء حزبه تكمن في سؤال واحد: «ماذا وقع لسعادة الرئيس؟» في 672 صفحة باح هولاند بما يجول في فكره لصحافيين اثنين صاحبهما لفترة طويلة، وهو الرجل المعروف بأنه لا يثق في أحد حتى في أقرب مستشاريه... لم يفتأ الرئيس هولاند في هذا الكتاب في انتقاد كل المسؤولين والفاعلين والأجهزة الحساسة التي لا يجب أن تذكر بسوء في هاته الفترة ما قبل الانتخابات الرئيسية؛ فانتقد الرئيس فرنسوا هولاند القضاء الذي وصفه بأنه «مؤسسة من الجبناء»، كما حكم على لاعبي منتخب فرنسا لكرة القدم بأنهم بحاجة إلى «تدريب عضلات أدمغتهم»، كما كما أنه أفشى أسرار دولة هي من عمل المخابرات عندما كشف بأنه أجاز لأجهزة الاستخبارات الخارجية تنفيذ بعض عمليات اغتيال على الأقل، والقائمة طويلة.
ومعنى هذا الكلام أن هولاند بهذا الكتاب أغرق نفسه هو من معه في اليسار في الأرض جميعا، ومن قرأ التحليلات واستطلاعات الرأي سيخرج بقناعة أنه بهذا الكتاب لن يصوت عليه الناخبون الفرنسيون في الانتخابات المقبلة، ولكن مع الأخطاء والهفوات المتتالية ولا واقعية نتائج مراكز الاستطلاعات يصح لنا التأكيد بأنه لا شيء يمكن أن يكون حقيقة مطلقة رغم تقدم قواعد ومراكز استطلاعات الرأي.