ياسر صالح البهيجان
لم يقف تحوُّل نظام الحكم في إيران منذ سبعينيات القرن الماضي عند إسقاط ملكية الشاه، وإعلان الدولة الفارسية، بوصفها جمهورية إسلامية، إنما امتدت طموحات الساسة الفرس إلى وضع آليات ذات أبعاد ثقافية، تستهدف الأقليات الشيعية في الأوطان العربية سعيًا إلى تفريسهم، واستبدال مفاهيم القوميات الوطنية والعربية بقومية بلاد فارس بما تتضمنه من مكونات لغوية ودينية وموروث ثقافي واجتماعي.
أولى مراحل فرسنة شيعة العرب تنطلق بإلزامهم بالاتجاه إلى مدينة قم الإيرانية لتلقي العلم الشرعي. وهناك لن يتمكن المواطن العربي من فهم الدروس داخل الحوزة إن لم يكن مجيدًا اللغة الفارسية؛ لأن العلماء الإيرانيين يرفضون التحدث باللغة العربية، وحتى المرشد الأعلى الحالي خامنئي ومن قبله الخميني عادة ما يلقيان خطاباتهما الجماهيرية بلغة الفرس في محاولة لجعلها اللغة الوحيدة الحاضنة للمنتمين كافة للمذهب الشيعي في العالم.
ولم يُخفِ علماء الشيعة الصادقون في العراق ما تكنه إيران من عداء غير معلن لمدينة النجف، التي كانت مرجعًا رئيسًا للشيعة العرب؛ لأنها تمثل إحدى العراقيل الكبرى المجهضة لمشاريع فرسنة الشيعة في بلاد الرافدين والدول العربية الأخرى. وتمكنت طهران تدريجيًّا من تهميش تلك المدينة، وفرّغتها من دلالاتها العلمية والشرعية، واكتفت بجعلها مزارًا سنويًّا، ومصدرًا للاستحواذ على الأموال عبر ما يسمى بالسياحة الدينية، إلى جانب الخمس الذي يفرضه الملالي على الشيعة كافة بوساطة وكلائها في المنطقة.
ومن ضمن مشاريعها لتفريس الشيعة العرب يظهر جليًّا سعيها الدؤوب إلى جعل صورة الخميني رمزًا للثورة ومواجهة الظلم والاضطهاد والاستبداد. وتلك الصورة التي عادة ما نراها حاضرة في أي تظاهرة للأقليات الشيعية في المنطقة العربية تحمل دلالات وأنساقًا قومية، وترسخ المرجعية الفارسية لدى المنتمين للمذهب الشيعي، وتضمر إشارات غاية في الخطورة، تضرب عصب الانتماء الوطني والعربي، وتهدف إلى استعداء الأقليات الشيعية على أوطانهم وعلى المذاهب الأخرى المتعايشة معهم داخل الوطن الواحد، وتعزز بطريقة أو بأخرى مفاهيم الصراع الطائفي، وتحث فئة الشباب أحيانًا على الاتجاه إلى خيار العنف كوسيلة لكسب الحقوق بدلاً من التزام مبدأ العقلانية والحلول السلمية.
والحقيقة، إن عددًا ليس بالقليل من المنتمين للطائفة الشيعية في الوطن العربي أدركوا وإن متأخرًا المساعي الإيرانية الطامحة إلى استلابهم من قومياتهم الوطنية والعربية، وهذا ما يفسر اتجاه طهران إلى الحل العسكري بعد فشل مشاريعها الأيديولوجية في المنطقة، وأخذت تسلح المليشيات الطائفية في سوريا ولبنان واليمن والعراق لفرض مبدأ فرسنة العرب بالقوة، والمؤشرات الاستراتيجية والعسكرية كافة تؤكد أن مساعيها ستنتهي بفشل ذريع، من شأنه أن يقوض استقرار الجمهورية الفارسية، ويجعلها منبوذة، ليس على المستوى العربي فحسب، وإنما على المستوى الإقليمي والدولي نظير ما ترتكبه يوميًّا من حماقات، تتنافى مع القوانين والأعراف الدولية.