«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
أنا فلاح من هذه الأرض الطيبة، مواطن صالح، أصحو مع صلاة الفجر، وأجهز ما أريد حمله معي إلى (النخل) أو كما يطيب للبعض أن يسميه بالبستان، وهناك من يقول عن هذا المكان المحبب لنفسي «المزرعة»، أذكر عندما كنت فتى صغيراً كان والدي -رحمه الله- يركبني خلفه على «حماره» بعدما يحسن من وضع الخرج وفيه طعامنا الذي أعدّته والدتي، لم يكن طعاماً منوعاً، فهو طعام بسيط يتكون عادة من الخبز الأحمر، والزبادي البلدي. وإذا كان هناك بقايا من طعام الأمس، فإننا محظوظان حيث سوف نتناول طعاماً ساخناً، فوالدي عادة يقوم بتسخينه في الموقد بالنخل، حيث تتوفر لدينا بعض الأدوات البسيطة التي قد نحتاجها في إعداد بعض الطعام في حالة تأخرنا عن العودة إلى البيت أو حتى المبيت فيها، وكثيراً ما يتكرر ذلك خصوصاً أيام «الصرام» أو حصاد بعض المزروعات، وكم حرث الوالد وحرثت معه وغرسنا الفسائل والأشجار المختلفة هنا وهناك، صحيح أن «نخلنا» ليس بكبير، وأنا قلت نخلنا من باب الشعور الداخلي أنّ هذا المكان أو هذا البستان هو ملك لوالدي وقبله جده. لكن الواقع أنه وقف لأسرة كريمة أستأجره جدي منذ كان في عمر الشباب.. ولم تكن مساحته كبيرة، فهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف متر، ومع هذا وكلما تواجدت فيه شعرت بأنه كبير كبير بسعة الوطن.. وعلى الرغم من كوني فتى صغيراً لكنني كنت أجيد مختلف الأعمال الزراعية، والتي يتطلبها العمل في النخل من حرث وتسميد لإخصاب الأرض وريها، وبعد ذلك القيام بجز البرسيم أو جمع الفجل وقطف الورد الحساوي أو الريحان لتقوم والدتي ببيعه بجوار بيتنا في الفريج.. وأذكر كم مرة شاركتنا والدتي وحتى شقيقتي العمل في النخل، عندها يكون العمل مختلفاً وله طعم عائلي ممزوج بالتعاون المشترك، فرحم الله والدتي كانت بارعة في تكريب النخيل، كانت كما يسميها والدي (الهميمة) يعني نشيطة جداً، وبعد العمل تسارع مع شقيقتي في تحضير الطعام، ويكرمنا الوالد بأن نذبح دجاجة من دجاج النخل تقديراً لنا على ما بذلناه من جهد وعمل طوال ساعات ما قبل وجبة الغداء، وفي الغرفة الطينية الصغيرة المغطاة بسعف النخيل يسمح لنا والدي بأخذ قيلولة قصيرة، قبل موعد صلاة العصر.. لنواصل بعدها العمل في (النخل)، وكان أصعب شيء هو أن تستمر في العمل وأنت في وضعية (مبوبز) فهي متعبة جداً، لكن مع الأيام تعوّدنا عليها جميعاً خاصة أمثالنا من الفلاحين أو حتى النساء، فهن يقمن بنفس الحركةلال قيامهم ببعض الأعمال المنزلية، من كنس وغسيل، وحتى الطبخ بجوار الموقد، وبحكم أن عائلتي فقيرة، فلم تكن تستطيع استئجار عمال، فكنا في موسم زراعة الأرز الحساوي الأحمر تتبلل أرجلنا حتى مستوى سيقاننا بالطين المشبع بالمياه ذات الرائحة الكريهة، وكان الطين يغطي سراويل والدتي وشقيقتي عندما يشاركن في غرس شتلات الأرز في الأرض الطينية الوحلة والمسمودة كثيراً.. وكنت أردد بيني وبين نفسي وحتى على مسامع والدي ووالدتي، يجب أن نتحلى بالصبر حتى نجني ما زرعناه وبعدها نستطيع الوفاء لأصحاب «النخل»، وبالتالي نسدد لهم الإيجار؟! وكنت أقول إذا كان الفلاحون في مختلف البساتين والحقول يقومون وقادرون على العمل والاستمرار فأنا وأنتم قادرون أيضاً.. وكانت لبعض «القراريص» آلام، وكذا النمل الأسود المزعج والذي يقرصنا أحياناً بقسوة وبدون أحم أو دستور، وكم مرة شاهدت إحدى شقيقتيّ صراخهما المكبوت أو الصامت دائماً، ولكنني كنت أرى كيف تتغير ملامحهما لحظة القرص.. كانت مشاهد لا تنسى ومزروعة في ذاكرتي مثل ما هي مزرعة الأشجار والفسائل التي غرسناها ونمَت وكبرت وباتت أطول منا..؟! واليوم كيف أرى نفسي بعدما كبرت وتزوجت وأصبح لي أسرة صغيرة ولكن الأحوال تغيرت وتطورت، وبدل ما كنت أحضر لهذا النخل راكباً خلف والدي على (حماره) هاأنذا أقود سيارتي (البيك اب) متجهاً إلى المدينة حاملاً في صندوق سيارتي مراحل التمر متجهاً بها إلى سوق التمور لبيعها.. كم تطورت الحياة، قبل أن ينعطف يساراً في اتجاه طريق السوق إذا بهاتفه الذكي يرن بنغماته المميزة، رفع الهاتف وجد الرقم طويلاً.. اتجه بالسيارة إلى اليمين مبتعداً عن وسط الطريق وزحمة السيارات، وأجاب على المكالمة .. آه إنها من ابن شقيقته الذي يدرس في نيوزيلندا، وراح يطمئنه أن أحواله على ما يرام، وأنه حاول الاتصال بوالدته ليطمئنها لكن هاتفها دائماً مشغول . فضحك وهو يجيبه، اعذرها يا ولدي أكيد مشغولة مع خالتك لمتابعة آخر أخبار الديرة، ثم استطرد قائلاً: لا تستحي مني إذا ناقصك شيء، فلوس ولا مشتهي تمر. المهم لا تردك لا نفسك! فرد عليه مؤكداً أن مكافأة البعثة فيها بركة.. أما عن التمر فزملاؤه في البعثة لديهم منه الكثير، وقال: تصدق يا خالي لما نجتمع على سفرة جماعية تتنافس تمور الوطن فهذا خلاص وذاك سكري وحتى عجوة المدينة السمراء موجودة، نحن في خير.. اللهم دم علينا وطن الخير، فردد خاله صدقت يالدي اللهم دم علينا وطن الخير..»!