د. خيرية السقاف
«سِتِّي» ونحن صغار كانت «أيقونة» تتحرك بين عيوننا بجسمها الناحل, ووجهها الصبوح, تلقمنا شرائح التفاح، تحمل لأفواهنا أقداح الحليب, تتوسّد جوارنا مضاجع النوم، تسقينا نمير عذباً من الحب, والحكم, لكنها كانت صارمة عند الخطأ, حازمة في الإفهام, ترطب الموقف بعد ذلك بمقولتها الشهيرة التي لا تبارح ذاكرتي: «عشنا وشفنا», وحين تقولها إما في لحظة استنكار لسلوك لا تتقبّله وإن كان ضحكة بصوت عال, أو استلقاء أمام كبير, أو تناول طعام دون حمل إنائه للمطبخ, أو تأخر عن صلاة, فإنها أيضاً كانت تقولها حين موقف طريف يبدر عن أحدنا, أو عند محاولة أي منا أن يتذاكى عليها في شغب طفولي,..
«ستِّي» خلّفت لنا خزينة من القيم, ومساطر من المقاييس, وحداً فاصلاً بين الأبيض والأسود, دوما تُرجح بمقولتها في أذهاننا الجهة البيضاء, حتى لا يلومنا أحد فيقول عن مسلك ما يصدر عنا بأنه لا يليق بالبياض «عشنا وشفنا»,
في الوقت الذي تحرض يقيننا بالثقة في أنفسنا لأن يقال عن تصرفاتنا «عشنا وشفنا» لأنه كان التصرف الجميل, والنبيل, والصحيح, والقويم, فنتراكض لنثبت لها أننا بالفعل أدركنا الفرق, واستوعبنا الدرس, في تنافس بيننا من يسبق الآخر لكسب بشاشة وجهها, وضمة حبها, ومن سوف يدعو وجهها لمسحة جد, ونظرة حزم ؟!..
أكاد أتخيلها اليوم في معمعة الإسراف في نأي الوجوه وصدها عن الصغار, وهم في تفريط المتاح من حولهم لا تستقيم لهم مفاهيم, ولا يستوعبون خطورة, ولا مقاييس نصبت أمامهم عند حدها يتخطون, أو يقفون, فتتردد علي مقولة «ستِّي»: «عشنا وشفنا», لكن بأسى..
إذ لا أتخيل مع كمية المعلومات في شأن التنشئة, ومع كثرة الملتقيات في قضايا الطفولة, ومع تدفق التصنيفات في موضوعات الصحة النفسية, والسلوكية للطفل, والتربية الفكرية له, وبناء جسده السليم، و.. و، أن يجهل الآباء تأسيس القدوة لهذا الطفل, وأن يكونوا له المحضن المتوازن بين الحزم, واللين, فلا يتركونه في مهب التقليد, وانفتاح المنافذ رحبة يلتقط عنها معلوماته, ومعارفه, وتكوين مؤشراته, وينتقي رموزه, وتصبح هي مدرسته المفتوحة أبوابها ليلاً ونهاراً تتم له تشكيل سلوكه, وقناعاته, وأفكاره, بل وجدانه, بما فيها ملابسه، وألفاظه, وهيئته!!
لا أتخيل أن ينام والدان في البيت وأبناؤهم بعيدون عنهم, رفيقهم عالم يتماوج في «جهاز», وقدوتهم صديقهم من يقنعون بما يقول ويفعل, وهو الذي يتعلمون منه..
«ستي», رمزاً كانت لكل الجدات في البيوت, كما إنها ملجأنا كانت هي مدرستنا, وكما كانت عوناً للوالدين, كانت بوصلة للرافدين, رافد النموذج ليكون هاجساً للبلوغ, ورافد المقياس ليكون حداً للتفكير فالاختيار..
ذلك الجيل الذي ينطرون إلى زمنه الآن نظرة بائسة, ويتهمونه بالقدم, والتقليدية, والانعزالية, مقارنة بهذا الوقت الذي يدعون فيه التقدم, والتحضر, والعلم, والمعرفة.. لكنه هو الزمن الذي فيه كان للتربية أصولها القويمة المكينة, وفيه التوجيه بأجدى أساليبه, وأنجع مؤثراته, وبأفضل مما هو عليه في هذه المرحلة التي ملك الصغار فيها زمام أنفسهم, وتسيبت حبال التربية ورخت, وشغل الجميع بذواتهم بما فيهم المحاضن.. فجاء الجيل الذي شعارهم «أنا حر»,
ومع أنّ للحرية حدوداً لكننا «عشنا وشفنا», وشغاف قلوبنا تئن خشية, وحسرة، ورغبة في استدراك حبال الأشرعة قبل أن تبحر بهم مراكبهم بلا قبطان..
رحمك الله «ستيِّ», ورحم كل «ستيِّ» في بيوت زمنك الأبيض تلك البيوت التي قامت على الحب والحزم, وقوامة المقاصد والسبل.
رحمك الله فقد خلَّـفْتِ لي بوصلةً كلما هبّت ريح قلت : «عشنا وشفنا», وكلما غرّد «النغري» الذي كنتِ تربينه معنا تبسّمتُ وأنا أقول: « عشنا وشفنا»!!،
فالنُّغْري لم تنقرض فصيلته في الطيور, كما لم تعقم بطون النساء ولن..
هو ذا ناموس الكون, لكنه لون البشر...!!