أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: الحمد لله الذي وفقني إلى الاهتداء إلى أوراقٍ كنتُ أبحث عنها منذ سنتين بين أضابيري الكثيرة المتداخلة وإنْ لم أجد أصلها؛ بل وجدتها مطبوعة.. وصاحب الأوراق هو معالي الدكتور غازي القصيبي رحمه الله تعالى؛ وهو الذي تصفه هذه الجريدةُ بالاستثناء، وأيُّ استثناء هو ؟!.. وإليكم نَصَّ الخطابِ الذي أرسله إليَّ.. قال: ((أخانا وشيخنا أبا عبدالرحمن حفظه الله.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ببالغ السرور تلقيتُ محرَّرَكم الأخيرَ المُتضمنَ ضِمْنَ أمور أخرى موضوعَ الببليوجرافيا عن أعمالي، ورغبتكم جَـمْعَ ما شرد، ثم جَمْعَها في كتاب.. أقول وما توفيقي إلا بالله وحده: إنني على وَلَعِي بالنظام في عملي الرسمي: فوضويٌّ في عملي الأدبيِّ؛ فوالله يا أبا عبدالرحمن (ومن حُلِف لكم بالله فصدقوه) إني لا أحصي ما كُتِبْ عني، ولا أعرف مَنْ كتب عني، ولا أدري أين نُشِر ما يُنشر عني.. إنْ وَقَعَ تحت يدي شيءٌ عفواً، أو بفعل فاعل: قرأته ومزَّقته؛ وإنْ لم يقع شيءٌ: كفى الله المُؤْمنين القتال.. في هذا الوضْعِ الفوضوي لا أستطيع إلا أنْ أقول: إنَّ حصر مؤلفاتي يبدو لي كاملاً، ولا يحتاج إلى تعديل.. إنَّ الأشياء المكتوبة عني عِلْمُها عند ربي في كتاب.. وإذا كان ذلك كذلك فالعفو مطلوب منك، والعذر ملتَمسٌ لدى الباحث العزيز وفَّقه الله.. أمَّا الدعوةُ فيسعدني أنْ أُزِّفَ إليها؛ وسوف يكون ذلك بحوله تعالى بعد أنْ يركد الرمي.. [كنتُ دَعَوته إلى أنْ يأتي مِن لندن، ويُحْيِيْ أُمْسِيَةً عندي]؛ والرَّمْيُ لم يركد لا في الداخل، ولا في الخارج، والله المستعان على ما يصفون.. لك وللأخ أمين.. [يعني الدكتور أمين بن سليمان سيدو] بالِغُ الشكر، ولك الحق في أنْ تطبع ما شئتَ، وتُقدِّمَ لِما شئتَ.. والله يتولاكم ويتولانا برعايته.. تلميذك غازي 29-2-1424هـ)).
قال أبو عبدالرحمن: هذا الخطاب مَرَّ عليه أربعةَ عشَرَ عاماً؛ والرَّمْيُ الذي لم يركد هو ما باغتَ العربَ والمسلمين مِن محاولةِ استئصال المسلمين.. اللهم لُطْفكِ يا أرْحَمَ الراحمين.. ولم أَجِدْ بَعْدُ الخطابَ الذي أرسله إليَّ بخط يده، وفيه تَضَرُّعٌ، ودعاءٌ يَثِبُ بالقلوب، وَيَهُزُّ الْمَشاعِر.. وأحفظ بالمعنى لا بالنص من ذلك الخطاب: أنَّ الزحف جارٍ على العرب والمسلمين ابتداء من العراق وانتهاءً بالتقاء تونس بالمغرب والجزائر.. ولم يكن بين خطابه الأخير ووفاته سوى شهرين أو ثلاثة؛ إذْ عاش في شِبْهِ عُزْلَةٍ.. ولا ريب أنه قرأ المخطَّطَ الصهيونيَّ، والروسيَّ، والغربيَّ بالغين المعجمة، والمجوسيَّ، وبقيَّةَ فلولَ الباطنية.. قرأ ذلك بلغته الثانية التي يُجيدها، وبلغةِ أُمَمِ الشرق والغرب المترجَمَةِ إلى لغته الثانية أيضاً.. وهو مُلِمٌ بكلِّ الأبجدياتِ لابتلاعِ العراق، وقد وقعتْ الأحداثُ الظالِمَةُ المؤلِمَةُ كما قَرَأَ؛ إذن هو صريْعُ الهمِّ والرُّعْبِ بما سينالُ العرب والمسلمين من أخطارٍ كانت مُحْدِقةٌ في حياته.. اللهم ارحمه رحمةً واسعة.
وأرسل إليَّ رحمه الله تعالى رسالته الثالِثةِ عن (جامِعَةِ الْوَرْقاءِ.. جامعةِ الدكتور غازي).. قال رحمه الله تعالى: ((إني أُشْهِدُ اللهَ، وأُشهد القُرَّاءَ: أَنَّـي أَعدُّ أبا عبدالرحمن: لطيفَ القولِ، بسيِطَ الطولِ، حسنَ المأْخذِ، دقيقَ المنفذِ، متمكنَ البيانِ، مرهفَ اللسانِ، جليلَ الحلمِ، واسعَ العلمِ، قليلَ المخالفةِ، عظيمَ المساعفةِ، ثابتَ القريحةِ، مبذولَ النصيحةِ، مستيقنَ الوِدادِ، سهلَ الانقيادِ، صادقَ اللهجةِ، خفيفَ المهجةِ.. وأبو عبدالرحمن يَعْرِفُ من أين نقلتُ هذا النص.. وأمَّا الذين لا يعرفون فأتركهم مع هذا اللغز الذي نقلته من (جامعة الورقاء)!)).
قال أبو عبدالرحمن: (جامعةُ الورقاء) -وقد هداني اللهُ ثم الدكتور محمد بن فهد الفريح إلى أنها في كتاب (طوقُ الحمامَةِ) للإمام ابن حزمِ رحمه الله تعالى في باب (الْمُساعِدُ مِن الإخوان)-.. قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في مختصر طوق الحمامة ط دار ابن حزم عام 1423هـ طبعتهم الأولى ص 224- 225: ((ومن الأسباب المتمنَّاةِ في الحبِّ أنْ يهبَ الله عزَّ وجلَّ للإنسان صديقاً مُخلصاً، لطيفَ القول، بسيطَ الطَّوْل، حَسَنَ المأخذ، دقيقَ المَنْفَذِ، متمكِّنَ البيانِ، مُرْهَفَ اللسانِ، جليلَ الحِلْمِ، واسعَ العلمِ، قليلَ المخالَفةِ، عظيمَ المُسَاعَفَةِ، شديدَ الاحتمالِ، صابراً على الإِذلال، جمَّ الموافقة، جميلَ المخالفةِ، مُسْتوِيَ المطابقةِ، محمودَ الخلائقِ، مكفوفَ البوائقِ، محتومَ المساعدةِ، كارهاً للمباعدةِ.. [الأفضل: المباعَدة]، نبيلَ المداخلِ، مصروفَ الغوائلِ، غامضَ المعاني، عارفاً بالأماني، طيِّبَ الأخلاق، سَرِيَّ الأعراق، مكتومَ السِّرِّ، كثيرَ البِرِّ، صحيحَ الأمانةِ، مأمونَ الخيانة، كريمَ النفس، نافذَ الحِسِّ، صحيحَ الحَدْسِ، مضمونَ العَوْنِ، كاملَ الصَّوْنِ، مشهورَ الوفاء، ظاهِرَ الغَنَاء، ثابتَ القَريحةِ، مبذولَ النَّصيحَةِ، مستيقَنَ الوداد، سَهْلَ الانقياد، حَسَنَ الاعتقاد، صادقَ اللَّهْجةَ، خفيفَ المُهْجة، عفيفَ الطِّباع، رحبَ الذِّراع، واسعَ الصَّدْر: متخلِّقاً بالصَّبْرِ، يألفُ الإمحاض.. [يعني أنَّ نُصْحَهُ مَحْضٌ خالص]، ولا يعرفُ الإعراض، يستريحُ إليه بِبَلابِلِه، ويشاركُه في خَلْوةٍ فكره، ويفاوضه في مَكْتُومَاتِه.. وإنَّ فيه للمحبِّ لأعظمَ الرَّاحات، وأين هذا؟!.. فإنْ ظَفِرتُ به يداكَ فشُدَّهما عليه شدَّ الضَّنِين.. [مِن الأجمْلِ أنْ يبالغ بهذه الصيغة: الضِّنِّنيْن]، وأمْسِك بهما إمساك البخيل، وصُنْهُ بطارِفِك وتالِدِك؛ فمعه يَكْمُلُ الأُنْسُ، وتَنْجلي الأحزانُ، ويَقُصُرُ الزَّمانُ، وتطيبُ الأحوالُ.. ولن يفقدَ الإنسانُ مِنْ صاحب هذه الصفة عوناً جميلاً؛ ورأياً حسناً؛ ولذلك اتَّخذ الملوكُ الوزراءَ والدُّخلاءَ كي يُخَفِّفوا عنهم بعضَ ما حملوه من شديد الأمور، وطُوِّقُوُه من باهظِ الأحْمال؛ ولكي يستغنوا بآرائهم، ويستمدُّوا بكفايتهم.. وإلا فليسَ في قوة الطبيعة أنْ تقاوِمَ كلَّ ما يَرِد عليها دونَ استعانةٍ بما يشاكِلُها وهو من جِنْسِها.. ولقد كانَ بعضُ المحبِّين (؛ لِعُمِهِ هذه الصفةَ من الإخوان، وقِلَّةِ ثِقتِه منهم لِـمَا جرَّبه من النَّاس، وأنَّه لم يَعْدَمْ ممَّن باحَ إليه بشيءٍ من سِرِّه أحدَ وجهين: إما إزراءً على رأيه، وإمِّا إذاعةً لسِرِّه): أقامَ الوحدةَ مقامَ الأُنْسِ؛ فكان ينفردُ في المكان النَّازِحِ عن الأنيس، ويناجي الهواءَ، ويكلِّمُ الأرضَ، ويجدُ في ذلك راحةً كما يجدُ المريضُ في التأوُّه، والمحزونُ في الزَّفير؛ فإنَّ الهموم إذا ترادَفتْ في القلب ضاقَ بها، فإنْ لم يَنُصَّ مِنْها شيئاً باللسان، ولم يَسْتَرِحْ إلى الشَّكْوى: لم يلبثْ أنْ يهلكَ غَمَّاً ويموت أسفاً)).
قال أبو عبدالرحمن: الورقاءُ هي الحمامة ذاتُ الطوق، وهي عنوانُ كتابِ ابن حزمٍ؛ وهو (؛أيْ الكتاب) جامِعَةَ المتتلمِذين على كُتُبِ الإمام؛ وذاك الكتابُ الطوقُ جامعةٌ لا مثيل لها في الآفاق؛ وقد خَرَّجَتْ ملايِيْن الأجيال؛ والله المستعان.