د. فوزية البكر
لعلّ أهم الأسئلة التي يجب أن نوجهها لأنفسنا حين يتعلّق الأمر بالتعليم هو: ماذا نريد أن نعلّم أطفالنا ممن سيشكلون مواطني المستقبل؟ ما شكّل المواطن الذي سينتجه نظامنا التعليمي بعد خمس عشرة سنة؟
في مقولة صائبة تلخص عالمة التاريخ الأمريكية أكبر مشكلة تواجه التعليم بالآتي: إنّ من أكبر المعضلات التي يواجهها أي نظام تعليمي في العالم هو أن لا أحد يتفق مع الآخر على السؤال الآتي: لماذا نتعلّم؟ لذا فالسؤال الذي يجب أن يفكر فيه المعلمون وصنّاع السياسات التربوية والوالدين هو لماذا يذهب أبناؤنا للمدرسة أصلاً؟
نحن نأخذ المدرسة في عصرنا الحديث كحتمية مثل الأكل والشرب وهو ما أدّى إلى أن ننسى تدريجياً لماذا نذهب هناك وسمحنا لأنفسنا بالغرق في بحر التفاصيل الجانبية من إدارة وبيروقراطية بدل تتبع السؤال الأهم لماذا نحن في المدرسة؟ هل هو لتعلّم المهارات الأساسية لغةً وعلوماً ورياضيات وثقافة وطنية وعامة؟ هل يخلق تعلمها بالضرورة مهارات أخرى مثل الرغبة في التجريب وحب الاستطلاع وربما قليل من الوطنية ومعرفة هشة بتاريخ شعوب العالم كما هي حال طلابنا أم هي للحفظ والتلقين من خلال وظيفة المدرسة التقليدية التي تتمثّل في نقل التراث الثقافي كما يحدث في مدارسنا؟ ما جدوى هذه الوظيفة مقارنة بما تقدمه نماذج التعليم في مدارس الدول المتقدّمة وهل تصلح لنا؟ كيف حدث أن سياسات التعليم في المملكة مثلاً لم تتغيّر منذ وضعت في الستينيات بحيث اكتست هذه القدسية المفرطة إضافة إلى سياسات بيروقراطية تعتاش على مخزون ثقافي اعتاد تلقي الأمر واتباع سياسة المنع والتضييق سداً للذرائع, فكيف نستطيع بهذه الخلفية أن نخلق متعلماً عالمياً مسالماً قادراً على أن يجد وظيفة ويتعايش بسلام مع متغيِّرات المستقبل المعقدة تكنولوجياً ولغوياً وعرقياً؟
هنا تأتي وظيفة تعلّم مهارات المنطق والتفكير وأهمية التعرّف على المداخل الأساسية لنظرية المعرفة أو ما يسمي في الغرب (تي أو كي) لتكون أحد المكونات الضرورية للنظم التعليمية كما هي في كل بلدان العالم.
ارتفعت أعداد المتعلمين في مرحلة الإعداد العام في المملكة في الوقت الحاضر إلى أكثر من ستة ملايين طالب تديرهم آلة معقدة من المعلمين والإداريين وعدد لا يحصى من الخدمات المساندة التي تجعل ذهابهم يومياً إلى المدرسة ممكناً، هذا جعل التعليم هدفاً سهلاً لكل أدلجة بسبب كثرة الوسطاء والداخلين في العملية التعليمية مما سهل السيطرة على الأجيال, لذا ولكسر احتكار هذه الأنظمة لنظام يصب مخرجاته في كل منزل كان لا بد من تدريس المنطق والفلسفة ونظرية المعرفة وذلك ليكون المتعلم قادراً على تمحيص نوع المعرفة المقدمة إليه والطرق التي تم استخدامها للوصول إلى هذه المعرفة ومدى منطقية هذه المعرفة واتساقها مع قواعد المنطق الأساسية ومسئولية المرء في تلقي المعرفة وفي إنتاجها بشكل سلمي وعلمي يزيد من رصيد المعرفة البشرية في كافة الحقول.
تعليم المنطق والفلسفة يعلمنا ضرورة التأكد من الحقائق قبل ترديدها، التأكد من مصادر المعلومات المقدمة لنا، التعرف على التنوع في التفسيرات الثقافية المقدمة لكل أنواع المعرفة أي أن كل ما نتعلمه مفسر اجتماعياً وثقافياً بحسب المرحلة التاريخية التي ظهر فيها والظروف التي حكمت هذا الظهور وهو ما يعلمنا المسئولية الذاتية والمجتمعية تجاه ما نتعلم، تجاه ما نقول ثم تجاه ما نفعل.
فالله حين خلقنا وأمدنا بأدوات التفكر حمّلنا مسئولية استخدامها لعمارة أرضه بدل الجهل والتطرف الذي أودى ببعض أبنائنا إلى أتون هذه الجماعات الفكرية المتطرفة التي تنظر إلى المتعلم لا كدارس نشط قادر على تمحيص ما يقدم إليه من حقائق بل متلقٍ سلبي يردد في سذاجة ما يردده هؤلاء المتطرفون من مفاهيم خضت العالم الإسلامي وأقضت مضجعه.
أول الناس الذين يجب أن يدرسوا المنطق والفلسفة ونظرية المعرفة هم المعلمون الذين يجلسون في الفصول مع أبنائنا أكثر من ست ساعات يوميا ويحشون عقولهم بالغث والسمين من معارف متنوعة في كل الحقول.