كم من الناس تقابلهم في حياتك وفي كل يوم؟ العدد بالتأكيد غير معروف وإن كان ضخماً جداً، ولكن مَنْ مِنْ هؤلاء العابرين استقر في ذاكرتك وبقي في وجدانك وعانقته روحك؟ لا شك أنهم قلائل جداً!
الراحل عن دنيانا الفانية في الساعات الأولى من صباح يوم السبت المنصرم الثاني عشر من شهر صفر 1438هـ، كان إنساناً لا يمكن - أن عرفته - إلا أن يكون واحداً من القلائل الذين سيعظم فقدهم الدنيوي إن طال فراقك عنه، فكيف وإن كان الأمر أجلَّ والخطُب أكبر، وقد حال بينك وبينه ذاك الذي يملأ كؤوس الحياة بالأسى والحزن والفقد، ويجعلها فارغة إلا من تراب اللحود.
إن كان للشُّح والخوف من تبعات العطاء أهل وأصحاب فليس (تركي بن عبدالعزيز) منهم، وإن كان لمحبي الشهرة ومغرمي الظهور والتباهي حيز وعنوان، فقد نزع (تركي بن عبدالعزيز) كل إشارة واستدلال لمكانه، وإن كان من خلاقِ أقوام المن والتذكير بما كان وصار، فليس للفقيد الكبير صلة بهم ومودة.
زرت أمير الإنسانية (تركي بن عبدالعزيز) متشرفاً بالسلام عليه والاطمئنان على صحته في يوم شتوي من أيام مدينة القاهرة منذ أعوام مضت، وظللت أراقب سكنات وحركات الراحل، فما وجدته خلال مدة بقائي في مجلسه إلا هاشاً بهذا وباشاً ومرحباً بكل زائر، ومعطياً هذا السائل مسألته، وملبياً لاستغاثة مكلوم، ومخففاً من كرب الدنيا على من أصابته الحياة وشرورها بسهم، لم يكن مثار إعجابي بكل هذه الخصال فحسب - على ما يعاني صحابها من نصبٍ وجهدٍ، وما يعلق بالروح من ألم مشاطرة الآخرين كربهم وسوءات أيامهم - ما أثار انتباهي وإعجابي كذلك تلك البشاشة غير المصطنعة والابتسامة الدائمة والقلب المفتوح، لكل طوائف أصحاب الحاجات والآمال التي قدم من في المجلس النبيل لقضائها، دون أن تتغير الابتسامة وتتبخر كلمات الترحيب.
تلك كانت سمات وصفات (تركي بن عبدالعزيز) في رياضه ومنصبه، كما كان نفس الحال في قاهرته وتفرغه، هو خُلاصة النبل، ومكمن الكرم، وسَّيدٌ يعطي لوجه الله لا يريد من ذلك جزاءً ولا شكوراً، وأكاد أجزم أن شاعرنا الفذ القديم المتنبي لو أنه قابل راحلنا الاستثنائي ذات يوم لكان أدخله بلا شك فيمن يعنيهم ببيته المشهور:
لولا المشقة ساد الناس كلُّهم
الجود يفقر والإقدام قتال
رحم الله (تركي بن عبدالعزيز آل سعود) وأسكنه منزلاً خيراً من كل منازل الدنيا، وأنزل الصبر والسكينة على قلوب أهله ومحبيه ومفتقديه في المسرات والنوائب، إنه سميع مجيب كريم.
- د. سيف الإسلام بن سعود بن عبدالعزيز