«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
يزخر تاريخ الأمم، كل الأمم، خاصة العالم العربي والإسلامي، بنماذج رائعة عن قصص وحكايات الوفاء والحب بين الأزواج والمعارف وحتى الأصدقاء.. حكايات عندما تطلع عليها تثير في نفسك مشاعر التقدير والاحترام لأصحابها؛ كونهم تميزوا عن غيرهم بهذه الصفة التي باتت نادرة في عالم تسوده، بل تطغى عليه الماديات بصورة ممجوجة.
وإذا كان في عصرنا هذا قلّ فيه الوفاء فهناك في تاريخنا الإسلامي النموذج الأعظم والأروع، بل يصعد بنا معه إلى قمة الوفاء؛ لنعتبره مدرسة، نتعلم منها كل يوم ما يفيدنا في ديننا وحياتنا وتعاملنا مع مَن حولنا، بل مع الناس جميعًا.. فلا عجب ولا غرابة؛ فالوفاء والتقدير من صفات رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -. ومن ذلك:
الأول: ويُروى في صحيح مسلم عن السيدة عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ذبح الشاة قال: (أرسلوها إلى أصدقاء خديجة).
الثاني: قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها -: جاءت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عندي، فقال لها رسول الله: «من أنت»؟
قالت: أنا جثامة المزنية.
فقال: «بل أنت حسانة المزنية. كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟».
قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
فلما خرجت قلتُ: يا رسول الله, تُقبل على العجوز هذا الإقبال؟
قال: «إنها كانت تأتينا من زمن خديجة. وإن حسن العهد من الإيمان».
وهكذا نجد الإسلام يحثنا على الوفاء وحسن العهد؛ فلا عجب أن يزخر تاريخنا بنماذج عديدة من الحكايات المتوارثة، التي تفنن فيها المحبون المخلصون في التعبير عن وفائهم إرضاء لقلوبهم العامرة بالحب والوفاء والتقدير لذكرياتهم معهم. وأشدهم حيرة في التفنن من يريدون التعبير عن هذا الوفاء لحبيب راحل كما فعل مواطننا المخلص والمعاصر دخيل الله السرحاني؛ فوفاؤه هنا للذكرى وللعِشرة وللروح.. وها هي حكاية نابضة بالوفاء والتقدير، بطلتها فاطمة.. ومَن منا لا يعرف فاطمة زوجة الخليفة الخامس عمر بن العزيز - رحمه الله -؟ فاطمة هي بنت الخليفة، وزوجة الخليفة, وأخت لأربعة خلفاء, حتى قال فيها أحد الشعراء:
بنت الخليفة والخليفة جدها
أخت الخلائف والخليفة زوجها
هذه السيدة خرجت من بيت أبيها إلى بيت زوجها يوم الزفاف إليه وهي مثقلة بأثمن ما تملكه امرأة على وجه الأرض من الحلي والمجوهرات، ويقال إن من هذه الحلي قرطَي مارية اللذين اشتُهرا في التاريخ، وتغنى بهما الشعراء, وكانا وحدهما يساويان كنزًا، وقد قيل إنه لو بيعت مجوهراتها لأشبعت بثمنها بطون شعب كامل برجاله ونسائه وأطفاله.
ولكن كان أول قرار اتخذه زوجها أن يُدخل في بيت مال المسلمين كل هذه المجوهرات والحلي واللآلئ والدرر.
ولما تُوفي عمر بن عبد العزيز ولم يخلف لزوجته وأولاده شيئًا جاءها أمين بيت مال المسلمين، وقال لها: إن مجوهراتك يا سيدتي لا تزال كما هي, وإني أعتبرها أمانة لك, وحفظتها لذلك اليوم, وقد جئت أستأذنك في إحضارها.
فأجابته بأنها وهبتها لبيت مال المسلمين طاعة لأمير المؤمنين، ثم قالت: «وما كنت لأطيعه حيًّا وأعصيه ميتًا».
فهذا موقف لزوجة، يستدل من خلاله على شرف معدنها، ورفعة منزلتها، في وقت كانت فيه بحاجة إلى دريهمات معدودة؛ لتعيش بها في حياتها بعد وفاة زوجها، ولكن خُلق الوفاء منعها من ذلك.
وهذه (لبنى) صاحبة (قيس بن ذريح)، ظلت على عهدها له، وبلغت من الوفاء في حبها أنها نذرت نذرًا عجيبًا، بل مدهشًا، وعملت على تحقيقه، وقالت إنها لا ترى غرابًا إلا قتلته؛ إذ كان حبيبها قيس يتشاءم عندما يشاهد هذا الغراب؟!
ولا يمكن أن ننسى حكاية تلك الأعرابية الوفية والمخلصة، وهي من سكان البادية؛ إذ صادفها (الأصمعي) في بعض أسفاره، وراعه منها أنها لا تتكلم أبدًا، فسأل مَن حولها: أخرساء هي؟ فقالوا له: لا، ولكن زوجها كان معجبًا بنغمات صوتها، وكان عذبًا، فلما توفي عنها أطبقت فمها فما تتكلم بعده، وإنما تكتفي بالإشارة إذا اقتضتها الضرورة إلى ذلك؟!
وماذا بعد؟ لا شك أن حياتنا مفعمة بحكايات الوفاء بين المحبين، بعضها مستتر وخفي، ولا يُعلَن لخجل أو حياء ما، كما أشار إلى ذلك جرير.. لكن يبقى الوفاء صفة محببة ومطلوبة في مختلف المجتمعات. وهذا نموذج حي من الوفاء لإحدى السيدات الفاضلات في الأحساء، التي تقوم في كل مناسبة عيد أو فرح أو عزاء بزيارة أخوالها وأعمامها في المنطقة التي يقيمون فيها رغم تباعد مساكنهم، وفاء لوالدتها التي رحلت منذ سنوات، مرددة لأبنائها وبناتها أهمية الوفاء وصلة الرحم.. بل إنها توصيهم خيرًا بالتواصل. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، تصل لمئات البيوت في الأحساء وخارج الأحساء (مراحل من التمر) التي اعتاد البعض إرسالها كل عام خلال موسم الحصاد لبعض معارفهم وأصدقائهم؛ لتستمر هذه العادة أبًا عن جد.. في حلقة متصلة من الوفاء المحبب.