إبراهيم عبدالله العمار
الإنترنت صغّرت العالم. البعيد يتواصل مع البعيد، اختفت المساحة الجغرافية وتقلّص الوقت، بل حتى في نفس البلد سَهُلَ أن يرى الشخص أناساً لم يرهم منذ أيام الثانوية أو الجامعة، فيفتح الإنترنت ويبحث عن حساباتهم في تويتر وغيره ويرى ما صاروا إليه، وربما يتواصل معهم من جديد ويستذكرون الأيام الطيبة.
أو الأيام السيئة! فهناك قصة رأيتها أحزنتني، وهي شاب كتب رسالة في صفحة تويتر الخاصة بالمعلم، يسأله: «هل أنت المعلم الفلاني؟». ولما رد المعلم بالإيجاب رد الشاب قائلاً: أنا كنت من تلاميذك قبل 20 سنة، ولما كنتُ طفلاً في الابتدائية ضربتني بعقالك ضرباً شديداً أمام الطلاب بدون سبب معقول، ضرباً لو أصاب جملاً لمات، وأضررتني ضرراً نفسياً شديداً حتى إني كنت أرسب سنة بعد سنة بسبب تلك الحادثة، ولنا وقفة أمام الله يوم القيامة.
بافتراض صحة القصة فإني تأسفتُ على هذا المسكين الذي تعرض لظلم شنيع من معلم لا يستحق هذا المسمى الشريف، «معلم»، وهي من أعظم وأشرف المِهَن لو أخلصنا في تطبيقها، وفي دول مثل فنلندا - أفضل دولة تعليمياً - فإن التعليم أعظم مهنة في رأي الناس، والمدرس هناك يحظى بالإجلال والإعجاب بسبب عِظَم مهمته وشرفها.
أتذكر بعض المعلمين السيئين الذي مرّوا علي، لكن تأثير المعلمين الطيبين أقوى، وكما أن ذاك الرجل وجه اللوم لمدرس سيئ، رأيتُ أن أوجه الشكر لبعض المعلمين المتميزين الذي مروا علي:
- شكراً للأستاذ ناصر، مدرس اللغة العربية في المرحلة المتوسطة. كم كان أسلوبه التعليمي رائعاً: كان يجعلنا نقرأ النص من المنهج، لكن بدلاً من طالب بعد طالب يقرأون نفس النص الممل بطريقة تجعلك تكره القراءة من شدة التكرار، كان يجعل الطالب يقرأ نصاً ثم يوقف الطالب ويسأل الفصل: ما معنى هذه الكلمة التي قرأها فلان؟ وترى الأيدي تتسابق لتجيب. يجعله يكمل، فيكمل الطالب: «رأيت الجمل»، فيوقفه ويسألنا: من يعرف مرادفاً للجمل؟ ومرى أخرى يتلهف الجميع للإجابة، حتى الكسالى الذين لم يهتموا بالدراسة ولا القراءة كانوا يتحمسون ويرفعون أيديهم، فهذا يجيب: بعير! وذاك يقول: ناقة! يكمل الطالب القراءة: «سارت القافلة نحو مكة»، يوقفه المدرس ويسأل: من يُعرِب لي «القافلة»؟ وتتطاير الأيدي من جديد! كانت كل حصة مثل مسابقة ثقافية ممتعة.
- نفس الأستاذ كان يجعل الطالب الأول على الصف هو أول من يقرأ النص، وبعده يقرأ صاحب الترتيب الثاني. لم يكن يقولها صراحة لكن لاحظناها. كان شيئاً لطيفاً يشجعك أن تتفوّق لتكون أول من يقرأ!
- شكراً لكل أستاذ حوَّل مادة جادة ثقيلة إلى حصة ممتعة.
- شكراً لأستاذ الحديث الذي أحضر علبة صغيرة أثارت فضولنا، وفتحها وإذا فيها جائزة جميلة (مسبحة، قلم، كبك)، وقال: اذهبوا للمنزل وابحثوا عن معنى الحديث الفلاني. وأعطانا حديثاً لم نسمع به قط. حمّسنا للبحث عنه وعن معناه، وما زلت أذكر الحديث، وهو «لعن الله المختفي والمختفية». لم أعرف آنذاك، لكن محرك البحث علّمني الآن: المختفي هو نباش القبور.
أعطني الجائزة يا أستاذ!