جاسر عبدالعزيز الجاسر
بعيداً عن الارتدادات التي حصلت في أكثر من عاصمة، وبالذات العواصم الأوروبية بعد فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن تمكن تاجر العقارات من النجاح في صفقة الرئاسة لأهم دولة في العالم يكشف عن تنامي ما يمكن تسميته بالشوفينية الوطنية، وقد عرف ترامب بعقليته التجارية أن الاتجاه المجتمعي الأمريكي لا يختلف كثيراً عن المجتمعات الغربية الأخرى التي بدأت في اتخاذ خطوات وإجراءات «حمائية» إن صح التعبير للحفاظ على أوضاعهم ومكتسباتهم في بلدانهم بعد أن شعروا بتهديد القادمين الجدد من المهاجرين الذين أصبحوا أكبر من «أقلية»، كان وجودها ضرورياً لتقديم الخدمات التي تتطلبها المجتمعات التي تتطور بسرعة.
الولايات المتحدة الأمريكية نمت وتطورت وكبرت بسرعة لتصبح أكبر قوة دولية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً بعد هجرة الأوروبيين البيض «الأنجلوسكسوني» وهؤلاء كان يضمون نسيجاً عرقياً ودينياً واحداً تقريباً، فمعظمهم إن لم يكونوا جميعاً من الإنجليز والإيرلنديين والألمان والإيطاليين والفرنسيين، وهؤلاء كانوا جميعاً مسيحيين أغلبهم يعتنقون المذهب البروستانتي، وبعدهم الكاثوليك، ويتحدثون لغة واحدة «الإنجليزية» وقلد منهم الإيطالية والفرنسية، إلا أن اللغة الجامعة كانت الإنجليزية، وإن كانت بلكنة أمريكية مميزة، وتجمعهم ثقافة واحدة أوروبية اكتسبت خصائص مميزة كالتمسك بالحرية والليبرالية والحفاظ على خصوصية العرق والانتماء، ولهذا كانت البدايات الأولى للولايات المتحدة الأمريكية تعظيم الجنس الأبيض البروتستانتي والذي منح لنفسه استعباد الأجناس الأخرى كالأفارقة الذين جلبوا كعمالة تباع وتشترى، واستغل المهاجرين من دول الجوار والمهاجرين الذين قدموا لأمريكا من غير الأوروبيين، ولأن الأفارقة المهاجرين من دول الجوار والآسيويين لهم ثقافتهم ولغاتهم ودياناتهم فقد ظلوا مختلفين عن الكتلة الأكبر في المجتمع الأمريكي الآخذ بالتكوين، ولأن البلاد الشاسعة والإمكانات كبيرة والحاجة تتطلب أيادي عاملة وخبرات فقد ظلت البلاد تستقبل موجات متواصلة من المهاجرين الذين ظلت كتلهم تنمو وتكبر وزاد من بروزها وظهور كقوة سياسية وحتى اقتصادية تحرر العبيد الأفارقة الذين شكلوا مجتمعاً خاصاً بهم، مما أوجد فصلاً بين الكتلة الأكبر «البيض الأنكلوكونين، والأفارقة الأمريكيين»، وبعد تنامي المهاجرين من الدول المجاورة ظهرت كتلة ديمغرافية أخرى، حملت سمات وصفات الثقافة التي جلبوها معهم، لتظهر كتلة اللاتينيين الذين يتحدثون لغة واحدة برتغالية وقلة إسبانية، وأكثرهم يتبعون الكاثوليكية، وعلى هامش هاتين الكتلتين نمت كتل أقلية أخرى ضمت المهاجرين من آسيا، فظهر الهنود والمسلمون والأرمن واليهود.
بعض هذه الكتل الديمغرافية لم تشكل تهديداً للكتلة الأكبر، كالأمريكيين الأفارقة، أو الأمريكيين اللاتينيين فالمسلمون لم يتجاوز عددهم الستة ملايين نسمة وبضع مئات من الآلاف، بينهم ثلاثة ملايين ونصف مليون عربي والآخرون أتراك وباكستانيون وهنود وأفارقة، أما اليهود فمعظمهم أتوا من أوروبا، وظلوا أقلية عوضوها بنفوذهم الاقتصادي وقوتهم السياسية بسبب سيطرتهم على الإعلام والمال.
هذه الكتل الديمغرافية هي التي حفزت ترامب على تحريك الكتلة الأكبر «البيض الأنجلوسكسوني» وذلك رداً على استثمار سلفه السابق أوباما الذي صهر كتل الأقليات فيما سمي وقتها بـ»قوس قزح» والذي ضم الأفارقة واللاتينيين والمسلمين واليهود ليكون ذلك دافعاً لإثارة الخوف لدى من كانوا يعتبرون أنفسهم أسياد أمريكا وأصحابها الأساسيين رغم أنهم قضوا على أهلها الأصليين «الهنود الحمر» وقد حرك ترامب كوامن الخوف والشوفينية الوطنية المكتسبة للوطن البديل لدى البيض، وبالذات لدى الأقل تعليماً وجدارة، من أن تسيطر كتل الأقليات التي أوصلت واحداً منهم لرئاسة أمريكا، وهو نفس أسلوب وما يفعله زعماء أوروبا من الوطنيين الشوفينيين الذين يقودون تحركاً لتحصين بلدانهم حسب اعتقادهم، ويقولون لمواجهة موجات الهجرة من اللاجئين والقادمين من ثقافات ومناطق أخرى.