خالد محمد الدوس
لاشك أن الموت حق وعاقبة كل حي وختام كل شيء, ونهاية كل موجود سوى الخالق الواحد المعبود سبحانه وتعالى, وهو أول رحلة للآخرة وتعقبه رحلات طوال..كأمر ثابت وحتمي لامفر منه ولامناص.. انطلاقا من قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}، وعندما يموت أحد أفراد الأسرة خاصة الأب فإن رحيله يترك وراءه زوجة جريحة، وأبناء مكلومين..يتألمون لرحيله, ويحزنون بفقده, ويبكون بوفاته, ولكن هنا تختلف درجة المشاعر الوجدانية،والضغوط الانفعالية, والتوترات العصبية التي تصيب أهل المتوفى حسب معطيات الوازع الديني والمكون الثقافي والخلفية الاجتماعية, كما أن تأثير الأسرة بموت أحد إفرادها، أو موت عزيز عليها يختلف، أو تتباين درجته.. طبقا للبناء النفسي, والعاطفي.. والتكوين الشخصي والعقلي والقيمي للإنسان، فهناك من يتأثر بوفاة قريب أو عزيز بدرجة يفقد فيها المصاب توازنه النفسي واستقراره الوجداني إلى حد تصل درجة الانهيار والاستسلام للأحزان, وألم الفراق, والارتهان في أحضان الأسى والاكتئاب..!, وهناك من يكون تأثير الوفاة عليه بدرجة بسيطة.. وبصورة أقل بكثير من الحالة الأولى, وحتى وإن تساوت فيها نوع القرابة ودرجة الصلة, ولكن من المؤسف حقا أن هناك حالات انهيارية تقودها مشاعرها الجياشة وعواطفها.. لحظة سماع وفاة قريب أو عزيز إلى السقوط في نفق (الاكتئاب) المزمن وأعراضه المرضية.. وربما تحتاج إلى علاج نفسي أو دوائي إذا لازم الأمر..!!
ولذلك، يمكن إعادة التوازن النفسي والعاطفي والاستقرار الانفعالي والعصبي للأسرة وضبط إيقاع رتم حياتها.. بعد وفاة أحد أفرادها من خلال تواصل الأقارب والأحباب حتى بعد انقضاء أيام العزاء، ومعروف أن التواصل الاجتماعي والزيارات من الأقارب وأهل الحي والأصدقاء, خاصة في أيام العزاء، هو مظهر من مظاهر التضامن الانساني والتكافل الاجتماعي.. ومن آثاره الإيجابية أنه يساهم بقيمه النبيلة واتجاهاته الحضارية وروحه الاجتماعية في تخفيف المشاعر السلبية وألم الفراق لأهل الميت ومواساتهم في مصابهم الجلل.. وتذكيرهم بفضل الصبر والاحتساب وعدم الاعتراض على القضاء والقدر وهي ميزة المجتمعات الإسلامية، كما يقول علماء الاجتماع, وهذه المبادرة التواصلية في قالبها الإيماني.. ربما تعيد التوازن الوجداني والنفسي لأفراد الأسرة المكلومة، وتدعم بذات الوقت دور العقل والمنطق والسلوك, والوعي في ضبط موجة التوتر العاطفي والخمول الذهني.. مع عدم إغفال دور» الوازع الديني» الرقم الأهم في عملية قبول الأمر المحتوم والحقيقة الثابتة.. حقيقة الموت لكل مخلوق..والتكيف أو التأقلم الاجتماعي مع بعد مرحلة فقدان القريب, فالتسلح بالصبر وقوة الإيمان والثبات والتوكل بمثابة صمام الأمان ضد الأحزان المؤلمة والآلام الوجدانية الموجعة، وبالتالي تقبل الواقع الجديد والتكيف مع معطياته ومتغيراته وإرهاصاته لاريب أن من أصعب الأوقات وأقسي اللحظات التي توجهها أسرة المتوفى بعد انتهاء أيام العزاء بتضامنه الانساني ومشاعره الاجتماعية التكافلية هي ساعة انتزاع ونقل ممتلكات ومقتنيات وأغراض المتوفى من داخل غرفته لأنها لحظات صعبة قد تعيد أفراد الأسرة المصابة في فقيدهم لدوامة الأحزان والبكاء وسيطرة المشاعر السلبية ومثالبها على الحالة الوجدانية والنفسية والعصبية، ولذلك ومن الأهمية بمكان نقل ملابس ومقتنيات وأغراض الميت بعد انتهاء تظاهيرية العزاء.. ومغادرة المعزين مجالس وسرادق الواجب الديني والاجتماعي بأيام يفضل ألاتتجاوز الأسابيع الأولى من الوفاة..حتى لاتفتح نوافذ الحزن ورواسبه من جديد.. ودخول رياح الأسى والبكاء والنياحة واليأس بعد مشاهدة ملابسه ومقتنياته والأشياء التي كان يستخدمها في حياته قبل مماته.. خاصة وأن الحزن الشديد يشكل خطرا على الصحة العامة إذا تحول إلى اكتئاب مرضي مزمن !!، واستشهد في هذا السياق بالدراسة الطبية الحديثة التي أجراها باحثون من جامعةهارفارد الأمريكية العملاقة..
حيث كشفت معطياتها العلمية أن الأشخاص الذين يشعرون بالحزن والأسى الشديد لفقدان شخص قريب قد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم والإصابة بالنوبات القلبية والجلطات الدموية والشعور بالغثيان والألم في المعدة وغيرها من الأمراض العضوية.
وبالتالي من الضرورة التخلص من ممتلكات وملابس ومقتنيات الميت في الأسابيع الأولى من وفاته.. وذلك بنقلها لإحدى الجمعيات الخيرية وجعلها صدقة للميت وثوابا له,..ومن ثم تبدأ الأسرة المكلومة من جديد.. رحلة التأقلم والتكيف الاجتماعي مع التغير المفاجئ الذي حدث داخل نسيجها البيتي.. واستعادة توازنها العاطفي والنفسي والانفعالي بكل رضا وصبر وإيمان واحتساب وثبات، ولذلك من الممكن أن تتجاوز الأسرة أزمة الوفاة ومرارة الفقد والاعتياد على ذلك.. بقوة الإيمان بالله والرضي بقضائه وقدره، فالوازع الديني ومكوناته.. يمثل مصدر قوة ومواساة فاعلة للمسلم ومساعدته على تجاوز المحنة النفسية والوجدانية والعصبية والاجتماعية المتمخضة من وفاة القريب أو الحبيب, بالإضافة إلى السمات الشخصية والتكوين النفسي والعصبي للأفراد داخل النسق المنزلي,كما أن خبرة الفرد السابقة وتجاربه, ومدى علاقته بالفقيد, وكذا خلفيته الثقافية والاجتماعية.. عوامل بالتأكيد تساعد أسرة المتوفى وأقاربه على تجاوز الأزمة والتعايش مع التغير المفاجئ في قالبه الاجتماعي بعد الوفاة وقبول الواقع الحياتي الجديد وعدم الانسحاب منه والميل للعزلة، والارتهان في أحضان الاغتراب النفسي والانعزال الاجتماعي.!