د. عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
تحولت صدمة الأزمة المالية العالمية 2008 إلى حالة ركود، ولا يعرف العالم إلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك في الاقتصاد الحقيقي، فقبل الأزمة المالية نمت الأجور بنسبة 4 في المائة، ونمت الإنتاجية بنسبة 2 في المائة سنويًا في بريطانيا، ومنذ الأزمة المالية تقدمت الأجور ببطء بمقدار نصف المعدل المعتاد، والإنتاجية توقفت تقريبًا، أي أن الأسعار في المتاجر ارتفعت أكثر من الأجور.
الاقتصاد العالمي لا يتباطأ فقط، لكن السياسة النقدية 1 المتمثلة في انخفاض أسعار الفائدة، والسياسة النقدية 2 المتمثلة في برنامج التسهيل الكمي مستنفدة إلى حد كبير، فماي زعيمة بريطانيا الجديدة ترى أن السياسة النقدية 1و2 قدمت الدواء الطارئ الضروري بعد الأزمة المالية، لكن قالت علينا أن نعترف بأن هناك آثارًا جانبية سيئة، فالناس أصحاب الأصول المالية أصبحوا أغنى، والذين دونها عانوا، تقصد ذوي المدخرات الأقل باتوا أكثر فقرًا، ولا بد أن يتغير هذا الوضع.
الاعتراض على تلك السياسات النقدية هي صرخة ألم، فأسعار الفائدة المنخفضة تقوض نماذج أعمال المصارف وشركات التأمين، وتخفض دخل المدخرين، وتدمر قدرة أنظمة التقاعد على السداد، وترفع الأصول وتجعل عدم المساواة أسوأ.
كما أن القواعد الأكثر صرامة أدت إلى تدهور صحة الأسواق وتحول الصفقات العامة إلى صفقات سرية أقل شفافية، وعلى الرغم من جهود المفوضية الأوروبية لدعم سوق التورق المالي التي تعتبرها محركًا مهمًا للإقراض والنمو.
وبحسب بيانات جمعية الأسواق المالية في أوروبا أوضحت أن الإصدارات الجديدة التي اشتراها المستثمرون في عام 2015 بلغت 82 مليار يورو، بينما بلغت في عام 2007 قبل الأزمة المالية نحو 419 مليار يورو، بسبب أن شركات التداول التي توفر السيولة للذين يحتفظون بأوراق مالية مدعومة بالأصول مثل الأوراق المالية المدعومة بالقروض العقارية التجارية، تضررت بشدة خصوصًا من التخفيضات في المصارف الاستثمارية، وكثيرون يلقون باللائمة على الضوابط الصارمة التي أفضت إلى إصدارات أقل.
فالمصارف الاستثمارية من نورمورا إلى دويتشة بانك خفضت من دوائر التورق المالي فيها، والمصرفيون والتجار تركوا الصناعة، ما جعل المصارف الاستثمارية الأمريكية تظفر بغنائم (وول ستريت) تاركة الفتات للأوروبيين، حيث إن أربع من المراتب الخمس الأولى الخاصة بالرسوم المستوفاة عن عمليات الدمج والاستحواذ، والاكتتاب العام الأولى وإصدار السندات تشغلها مصارف أمريكية بسبب أن المنظمين في أوروبا يحققون عكس ما يقصدونه، أي أن العلاقة بين السياسة والاقتصاد تتغير.
فبعدما كان الاقتصاد يقود الساسة، فإن الساسة يقودون الاقتصاد، وهو ما يجعلهم غير قادرين على كيفية الإفلات من فترة مطولة من النمو الاقتصادي البطئ المتفاوت، الذي يمكن أن يصيب العالم المتقدم بالاستمرار في الركود والشلل الاقتصادي، ويمكن أن يكتسح الاقتصاديات الناشئة وعلى رأسها الصين.
هناك انقلاب على كفاءة الأسواق بل قوضت شرعية نهج السوق الحرة، التي ترى بأن معظم ابتكارات ما قبل الأزمة كانت مدفوعة بالرغبة في تعزيز العائد على الأسهم ورفع المكافآت، بدلاً من توفير خدمات مفيدة، وأن الاستقرار في الاقتصاد الكلي يمكن تأمينه من خلال قواعد صارمة، ما يعني أن الساسة الجدد يتبنون العدالة والتدخل الحكومي.
لذلك علينا أن نتذكر تقرير بيفيريدج الذي وضع الأسس الفكرية لدولة الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية في ظل حكومة تشرشل، الذي وضع الأساس لحقبة تاتشر عام 1976 الذي يعتقد أن الخروج من الركود عن طريق الإنفاق وزيادة التوظيف من خلال خفض الضرائب وتعزيز الإنفاق الحكومي، فلم يعد هذا الخيار موجودًا بعد الأزمة المالية، حيث نلاحظ الاتجاهات في سوق خيارات العملة التي تبلغ 5 تريليونات دولار عبر تداولات سوق العملة العالمية يوميًا نتيجة ارتفاع تكلفة التحوط من مخاطر التقلبات الحادة التي انحسرت لصالح العملات المرتبطة بالسلع الأولية.
فمجموعة العشرين التي عقدت في الصين تعهدوا بالجمع بين تدابير السياسة النقدية والإصلاح الهيكلي، وصندوق النقد حذر من مخاطر النمو السريع جدًا للإقراض في الصين التي وصلت نحو 18 تريليون دولار ديون الشركات الصينية تمثل 169 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لبكين، تزيد الضغوط على العملة، وهو ما جعل الصين تسمح بهبوط اليوان تحاشيًا لنزوح رؤوس الأموال مع انتقادات الشركاء التجاريين مثل الولايات المتحدة، والعملة الصينية في أدنى مستوى لها في خمس سنوات ونصف، حيث خسرت 15 في المائة من قيمته أمام الدولار في أكتوبر 2016 بسبب أن السلطات الصينية أخفقت في تنفيذ استراتيجية شاملة، حيث يتضمن اتجاه الصين بشكل رئيس معالجة مشكلة الطاقة الزائدة مع قليل من الاهتمام بالتعقيدات المالية.
فهل يحتاج العالم إلى سياسة نقدية 3 التي تهدف مباشرة إلى تشجيع الإنفاق، حيث يعاني العالم من تخمة المدخرات العالمية والميل بأن تزيد المدخرات المطلوبة أكثر من الاستثمارات المطلوبة كي تنمو، وكذلك متلازمة نقص الطلب المزمن تصبح الأسوأ.
المرحلة الحالية تعاني من ضعف الطلب، بينما قبل الأزمة المالية كانت هناك طفرة ائتمان غير مستدامة بالرغم من أنها قامت بتعويض ضعف الطلب، ولكنها كانت سببًا في حدوث الأزمة المالية، بسبب أنها خلفت ديونًا ضخمة، نتيجة أنظمة مالية متراخية، وهي التي تفسر المأزق الحالي اليوم.
هناك اليوم طفرة في السلع الأساسية، لكن يرجع البعض إلى ضعف الطلب اليوم هو نتيجة نهاية طفرة الائتمان، التي أدت كذلك إلى تباطؤ نمو الإمدادات على مستوى العالم، حيث إن النمو المنخفض للناتج يضعف الطلب ويقلل من الاستثمارات، الذي يعد دائمًا دافعًا حاسمًا للإنفاق في اقتصاد رأسمالي.
لا توجد حلول بسيطة للاختلالات الاقتصادية العالمية، وحتى المسكنات المتمثلة في أسعار الفائدة السلبية غير كافية بسبب أنها تدفع المدخرين إلى شراء الأصول من النوع الذي من شأنه تمويل الإنفاق، لكن الشركات لن تندفع إلى الاستثمار، وما ينطبق على أسعار الفائدة السلبية ينطبق على التسهيل الكمي، ما يجعل بعض الدول تلجأ إلى النمو الذي تقوده الصادرات، بدلاً من اللجوء إلى الاقتراض بإفراط الذي مصيره الانفجار.
لذلك هناك توجه نحو التوسع المنسق للاستثمارات العامة، جنبًا إلى جنب مع الإصلاحات الهيكلية المناسبة، يمكن أن يزيد الناتج المحلي الإجمالي.