قاسم حول
مآخذ كثيرة وكثيرة جداً على خمسينية مهرجان قرطاج السينمائي. فقد أجمع النقاد على فشل تنظيم المهرجان فلا صالة المهرجان في قصر المؤتمرات كانت موفقة في اختيارها لليلة الافتتاح، بدلاً من الصالة التقليدية لكل عام، وهي صالة سينما الكوليزة التي تستوعب أكثر من ألف وخمسمائة مشاهد وهي صالة نظامية في شاشتها وفي عروضها صورة وصوتاً ولا ليلة الافتتاح التي ألقى فيها رئيس الحكومة كلمة المهرجان بدلاً من وزير الثقافة التي فاجأت هذه الحادثة جمهور المهرجان. لم تكن الأفلام قد فحصت، وثمة مشاكل تقنية حصلت أحياناً في فورمات الدجتيال، فتوقف العرض بعد عشر دقائق فيما كان الفيلم يعرض للجمهور ولجنة التحكيم على حد سواء. المحتفى بهم لمناسبة اليوبيل الذهبي للمهرجان في ذكراه الخمسينية لا أحد يوصلهم إلى صالات المهرجانات المتباعدة التي تعرض فيها أفلامهم. وصول الوفود إلى المهرجان، من إفريقيا والبلدان العربية والعالم لمطار تونس كان مرتبكا، ولم يجد المشاركون من ينتظرهم في المطار وأغلبهم يحمل أفلامه في حقيبته وحصلت مشاكل لهم مع الجمارك في المطار فيما هم يحملون رسائل الدعوات، وقد أثارت دعوة المخرج الكويتي خالد الصديق مشكلة في الصحافة المحلية والعربية، إذ دعي المخرج الصديق للمهرجان، وكان هو في الصين، حيث يتنقل في عمله لإنتاج الأفلام الوثائقية، دعي لحضور المهرجان وعرض أفلامه وتكريمه. ولم يكن المهرجان قادراً على دفع تذكرته وهو آت من الصين، فيما المهرجان يبذخ في جوانب أخرى غير ضرورية، فتفضل المخرج خالد الصديق ليأتي للمهرجان على نفقته وكما أخبرني عبر السكايب أنه دفع ثلاثة آلاف دولار ثمن التذكرة وقد خبرهم بموعد الوصول وأكد لهم أنه يحمل أفلامه وأفلام أخرى تتعلق بمهنته وينبغي أن يكون ثمة من ينتظره، وقد وصل وطلبت منه الجمارك أن تأخذ أفلامه للرقابة فرفض تسليم أفلامه وأفلام الشركات العالمية التي يتعامل معها، ما أضطره ذلك لقطع تذكرة جديدة للعودة وسافر إلى نابولي ومن هناك عاد إلى الصين وقد أبلغني عبر السكايب بالتفاصيل المتعبة التي عانى منها كثيراً. الصحافة كتبت عن الحادثة مقالات كثيرة واستاء الجمهور بسبب عدم حضور خالد الصديق صاحب فيلم «بس يا بحر» و»عرس الزين» والصقر التي فازت بجوائز في تاريخ المهرجان ولم تعرض أفلامه ولم يحضر التكريم .. مشاكل مشاكل مشاكل لا حصر لها. ولكن ثمة تجربة ليست وليدة هذه الدورة، بل هي وليدة الدورالسابقة للمهرجان أي الدورة السادسة والعشرين، وقد استمرت لهذه الدورة أيضاً لتصبح تقليداً مهرجانياً، وهو اعتبار السجون وجمهورها المقيم فيها من السجناء والسجينات من جمهور المهرجان وتعرض للسجناء في صالات العرض داخل السجون أفلام المهرجان لأيام قرطاج السينمائية. كانت الفكرة مقدمة من قبل الناقد عبد الكريم قابوس صاحب الأفكار الغريبة التي يسخر منها البعض، ثم يحبونها في النهاية!
سينما المهرجان في سجن النساء
سارت بنا الحافلة من شارع بورقيبة، الشارع الرئيسي في وسط العاصمة، نحو سجن في ضواحي تونس العاصمة وهو سجن «منوبة». وقفنا أمام باب مغلق كبير، وبعد انتظار وشوق فتح لنا باب السجن. سحبت هوياتنا ووضعت الهويات وجوازات السفر فوق هواتفنا النقالة على طاولة كبيرة في مدخل السجن. لكنهم سمحوا لكاميراتنا بالدخول إلى السجن. كنا أكثر من عشرين مخرجاً وممثلاً وصحفياً كي نعيش التجربة. مشينا ثم فاجئنا ملصق في مدخل صالة سينما. كانت الصالة فارغة، وكان الملصق يشير إلى أيام قرطاج السينمائية التي غادرناها، وغادرنا فندق أفريقيا، ودخلنا السجن، بل دخلنا سجن النساء. رتبت الكراسي بقدر عدد السجينات اللواتي سيحضرن عرض الفيلم المقرر عرضه ذلك اليوم! هي الفكرة التي يذهب المهرجان إلى الناس الذين لم يكن بوسعهم الذهاب إلى المهرجان ومشاهدة الأفلام.
«يمكنكم أن تصوروا كل شيء عدا وجوه السجينات» احتراماً إنسانياً للمشكلات الاجتماعية التي تعاني منها النسوة السجينات. سجينة واحدة فقط معها طفل لم يبلغ العامين فقط. حملته معها كي يشاهد الفيلم المقرر عرضه وهو فيلم « حالات» للمخرج التونسي «بن عثمان زروق»، والذي حاز أحد جوائز مهرجان برلين السينمائي ويعاد عرضه في مسابقة أيام قرطاج السينمائية. سمحوا لنا بتصوير النساء من خلف مسيرتهن وهن يتوجهن لصالة العرض أو وهن يجلسن في الصالة ويشاهدن العرض السينمائي أو يناقشن الفيلم مع المخرج بعد عرض الفيلم. لم تكن هذه الدورة هي الدورة الأولى السابعة والعشرين، بل هي الدورة الثانية للتجربة، إذ يعود الفضل للفكرة إلى أيام قرطاج السينمائية في دورتها السادسة والعشرين التي أدخلت المهرجان في السجون، إذ إن مهرجان قرطاج السينمائي يقام كل عامين، وتحاول وزارة الثقافة أن تجعله مهرجاناً سينمائياً سنوياً، ليس مهماً الفيلم بحد ذاته، فالموضوع هو عرض فيلم سينمائي من أفلام المهرجان، وإدخال مهرجان قرطاج السينمائي في تونس بأيامه السبعة إلى السجون وإلى سجون النساء بالذات. ويندرج عدم الموافقة على تصوير وجوه السجينات، يندرج في احترام الإنسان ومشاعره وبشكل خاص المرأة التي حاولت أن أقرأ مشاعر السجينات التي تنعكس على الوجه والعينين. كانت السجينات مسترخيات ولم أجد التوتر الإنساني الذي يكتنف شخصية السجين أو السجينة. سألت السيدة «العقيد جميلة ...» عن هذا الحنان وهذه الرعاية في التعامل مع السجينات فأجابت « أنها سعيدة بالعروض السينمائية وفي هذه التجربة في إدخال السينما لعالم السجينات، لا ينبغي أن ننظر للسجينات نظرة المجرم مهما كانت طبيعة الجريمة بل أن نخلصهم من الشعور بالجريمة وأن نعيدهم لإنسانياتهم» أخذت النسوة السجينات أماكنهن في الصالة بكل نظام وكل وقار. وسألت بعض المسؤولين في السجن عن طبيعة الجرائم المرتكبة فحدثوني عن طبيعة الظروف التي أدت إلى الفعل، وليس هذا موضوعنا، ولكن مندوبة الأمم المتحدة ومسؤولة المنظمة العالمية ضد التعذيب كانت قد حضرت العرض وألقت كلمة بعد كلمة العقيد جميلة ومخرج الفيلم. كنت أمام يوم مختلف من أيام قرطاج السينمائية، وأنا داخل صالة العرض ولست في سجن للنساء. لقد أعادت إليهن ظاهرة العرض السينمائي لأفلام قرطاج إنسانيتهن. وقد سألت صاحب الفكرة الناقد السينمائي عبد الكريم قابوس الذي قدم هذا المقترحقبل أكثر من عامين، فأجابني «إن الفعل الإنساني واستثمار الثقافة في الحياة الإنسانية والمباشرة بالتنفيذ هو شأن هام وليس فقط الكتابة والتحدث في المؤتمرات بشكل عابر وينتهي الأمر. هذا الفعل قال لي قابوس أهم من السجادة الحمراء» وكنت أتمنى أن تستثمر قضية النجومية في السينما لكي يأتي النجم السينمائي ويتحدث مع السجينات وبشكل خاص النجوم من الممثلات وقد يتمنين أن يلتقطن الصور مع هذا النجم أو ذاك. أضاف لي الناقد قابوس «لقد طرحنا أيضاً على وزارة العدل ووزارة الداخلية الاستفادة من تجربة البرازيل في هذا الشأن، وهو إدخال الكتاب إلى السجن ليس من أجل إيجاد مكتبة للسجناء للقراءة، إذ أن البرازيل التي تنشأ مكتبات داخل السجون، إنما تغري السجين كلما قرأ كتاباً وأستطاع أن يلخصه ويمر في امتحان بسيط، في حال نجاحه، فإن محكوميته تتناقص أسبوعاً عن كل كتاب يستوعبه ويستطيع أن يلخصه. وهي عملية إنسانية أخرى وثقافية سيما طبيعة الكتب التي تكون في متناول السجناء والسجينات. لم تأتنا السجينات بملابس السجن الموحدة، حتى تلغي النظرة للسجينات كسجينات بل جئن بملابسهن الاعتيادية وكأنهن مشاهدات جئن من البيت إلى صالة السينما ليحضرن حفل افتتاح أيام قرطاج السينمائية!! إن ظاهرة المشاهدة اليومية للأفلام السينمائية وطوال أيام قرطاج السينمائية وبحضور المخرجين والتي أتمنى أن تكلل بزيارة نجوم السينما للسجناء والسجينات هي أهم من المشي على السجادة الحمراء في مدخل كل صالة سينما .. نعم أهم بكثير إنسانيا. إذ يستطيع المرء والمخرجون والصحفيون التعايش مع هذه التجربة مع السجينات طوال عرض الفيلم مع المشاهدات المسجونات. أنها تجربة مختلفة تماما للمخرجين والصحفيين في مشاهدة الفيلم وتسجيل لحظات التفاعل مع مجريات الأحداث على الشاشة من قبل المشاهدات السجينات والمخرجين على حد سواء، إذ يصبح الفيلم السينمائي فيلما ثانيا مختلفا عما شاهدناه على الشاشة في صالة سينما المهرجان، سيما إذا ما بدأ النقاش مع مخرج الفيلم عن الأبعاد الإنسانية الفكرية والفنية ومدى تأثير الفيلم على المرأة السجينة. ولقد ألقت مندوبة الأمم المتحدة «منظمة ضد التعذيب» التي كانت متواجدة معنا لمعايشة التجربة في السجن، وهي تحضر أيام مهرجان أيام قرطاج السينمائية، ألقت كلمة عن أهمية هذه التجربة وأهمية أن تكون السينما إحدى مفردات الثقافة في السجون. هدوء السجينات. المشاهدة القيقة. الفسحة في احترام الزمن واستثمار الزمن لصالح الإنسان الذي وقع في خطأ أو دفع إلى الخطأ بسبب السلوك الإنساني غير المستتب جعلتنا نقف أمام التجربة ليس بالإعجاب بها بل بالانحناء لها.
أن تدخل السينما السجون لا ينبغي أن تتزامن فقط مع أيام قرطاج السينمائية، بل أني أرى أن تكون ظاهرة في السجون وأن تعرض إدارة السجن نمطا من الأفلام التي تتسم بالوضوح في قراءة الواقع ما يجعل السجين أو السجينة أن يتعلم الموعظة من الشاشة السينمائية مع دعوة المخرجين لمناقشة السجناء عن إنطباعهم بصدد الفيلم وسوف يكتشف المخرج والمبدع طعما آخر للفيلم، وما أيام قرطاج السينمائية في دخولها السجون سوى إحساس بأن السجين يفهم ويدرك معنى الحرية في أنه ذهب إلى صالة السينما لا أن تأته صالة السينما وأن يأته الفيلم وهو سجين، بل يشعر كما لو كان حراً في الذهاب لصالة السينما وأرى أن يبادر نجوم السينما التي تتحقق لهم الشهرة ويتمنى السجين أو السجينة بالتقاط صورة تذكارية معه ظاهرة طبيعية لكن احترام مشاعر السجين والسجينة في عدم تذكر المجتمع لوجوه السجنيات ولوجوه السجناء هي التي تحول دون تسجيل لحظات التصوير فطلبوا منا أن نصور التجربة بعيدا عن إظهار وجوه السجينات في الصحافة كما هذا المقال الذي ننشره هنا والخاص بصحيفة الجزيرة في المملكة ونحن تكتب الملاحظات ونصوغها في مقال يحمل بين سطوره المشاعر الإنسانية .. مشاعر عودة الإنسان لإنسانيته وأن تكون الثقافة والثقافة السينمائية بالذات هي الهاجس داخل جدران السجون والأبواب المقفلة .. أن السينما وتجربة أيام قرطاج السينمائية داخل السجون هو مفتاح الحرية .. هو المفتاح الذي يفك لغز القفل .. القفل الذي يغلق الحياة أمام عيون الإنسان حين يخطئ الإنسان. هذه مهمة ثقافية سينمائية ينبغي أن تعتمدها سجون هذه الأيام التي كثرت وتناقصت بالمقابل مؤسسات العلم في كثير من البلدان العربية والإسلامية!