د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
بعد الاستراحة القصيرة التي قضيناها في (طليطلة) قررنا إكمال الرحلة إلى الجنوب، كان (قوقل) يخبرنا أنَّ الطريق سيستغرق قرابة 6 ساعات، توقفنا بعد أن مضى نصفها عند إحدى المحطات الفاخرة المتناثرة في كل مكان، حيث لا يجد المسافر بين المدن الإسبانية أي عناء في التوقف -متى ما أراد- في استراحةٍ تُقدِّم له ما لذَّ وطاب من المأكولات والمشروبات إضافةً إلى التزود بالوقود، مما زاد من أنس الطريق وجماله، رغم أنَّ الشمس شرعت في الغروب قرابة الثامنة، غير أنَّ كثرة المنعطفات والأنفاق والجسور -التي ذكَّرتني بالطريق من (ديسنسو) إلى (روما)- تحتاج إلى تركيز أكبر في القيادة.
كان السكن الذي اخترناه يقع في مدينة صغيرة اسمها fuengirola (فيونخِرولَا)، تبعد عن (ملقا) مسافة أقل من ساعة، كانت مثالية للاسترخاء، لهدوئها وإطلالتها على البحر المتوسط، ومتميزة بموقعها الاستراتيجي القريب من عدة مدن ننوي زيارتها خلال الأيام الستة التي سنقضيها في ربوعها، كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف مساء حين دخلنا مجمعاً من (الشاليهات) القريبة من الشاطئ، لم يكن هناك ثمة من يرشدنا إلى سكننا، حتى (قوقل) الذي أوقفتنا خرائطه عند (شاليه) مغلق يبدو أن سكانه نائمون!
بعد بحث أكثر من ساعة وسؤال كلِّ مَن نصادفه دون جدوى تذكرنا الرقم الهاتفي الموجود في موقع الحجز، وفور اتصالنا به أجابت سيدةٌ يبدو أنها كانت تنتظر وصولنا أو هذا الاتصال، فهمتْ المشكلة على الفور وطلبت منا تحديد موقعنا الحالي، وبعد دقائق حضرتْ بسيارتها وبرفقتها زوجها الذي لا يحسن غير الإسبانية، وما هي إلا دقيقتان حتى بلغنا (الشاليه) الخاص بنا، كان أشبه بفيلا من دور واحد، يقع في مكانٍ مرتفع، يزينه مُسطَّح أخضر، في جانب منه مسبح دائري صغير، إضافةً إلى مسبح كبيرٍ مشترك يبعد عن مكاننا مسافة دقيقة، وبعد أن أخذتْ منا السيدة 100 يورو (عربوناً) ودَّعتنا لنخلد في نومٍ عميقٍ بعد رحلةٍ طويلةٍ استغرقتْ أكثر من 10 ساعات منذ أن ودَّعنا العاصمة الإسبانية.
كان الصباح الأول لنا في (فيونخِرولَا) استثنائيا، حيث الأجواء الشاطئية المعتدلة، ونسيم الهواء المنعش، والهدوء الجميل الذي يحيط بالمكان، إلا من نباح الكلاب الحارسة الذي يفاجئك في كل مرة تقترب من بقية (الشاليهات)، قررنا أن يكون اليوم استكشافياً لهذا المجمع، وتسوقاً من المحلات القريبة، أما بقية الوقت ففضَّلنا أن يكون استرخاءً على الشاطئ البديع الذي لا يبعد سوى مسافة خمس دقائق مشيا، كانت تلك اللحظات كفيلة بنسيان كل تعب سابق.
كان يومنا الثاني من نصيب (ملقا) الجميلة، التي لا تبعد سوى 100 كيلو شرق مضيق حبل طارق، وهي أهم ميناء أسباني بعد (برشلونة)، كانت تغص بالسياح الذين يقصدونها بسبب جوها اللطيف المعتدل وشواطئها البديعة على البحر المتوسط، أوقفنا سيارتنا في أحد المواقف السفلية، وبدأنا رحلة اكتشاف هذه المدينة الأندلسية التاريخية التي كان لها دورٌ كبير في البناء السياسي والاقتصادي لدولة الإسلام في عصر الطوائف والمرابطين، وبلغت قمة المجد والازدهار الحضاري في عصر الموحدين وما بعده، أما تأسيسها فكان في القرن الثاني عشر قبل الميلاد على يد الفينيقيين الذين أسموها (الملكة) أو (المالكة) كما تذكر كتب التاريخ، واستوطنها التجار الفينيقيون ووصفوها بأنها (ضوء الليل)، وذلك لانعكاس ضوء القمر على شاطئها، وقد تم اكتشاف عدة عملات فينيقية نُقش عليها تصوير ضوء القمر، غير أنَّ العرب بعد فتح الأندلس فسَّروا اسمها على أنه يعني (الملح)، حيث يعتقد أنَّ المدينة كانت مركزاً لتمليح الأسماك.
بدأنا الجولة بزيارة الساحة التي تتوسط المدينة، وفيها وجدنا تمثالاً للرسام الشهير (بابلو بيكاسو) جالساً على أحد المقاعد، حيث تُعدُّ (ملقا) مسقط رأسه، هذا الفنان الشهير الذي شغل العالم بمبتكرات إنتاجه الفني حتى بعد مماته، من خلال التطوير والتجديد الذي أدخله على مفاهيم الفن التشكيلي، إذ قلب المفاهيم والأفكار المتداولة رأساً على عقب، وفتح آفاق البحث والتجديد على أوسع نطاق، واعتُبر نشاطه وإنجازه الصورة الجديدة للفن الحديث أو المعاصر.
ولهذا فلم أستغرب أن تحتفي به هذه المدينة من خلال إنشاء متحف خاص بفنونه، لا يمكن للزائر أن يتيه عنه؛ إذ تنتشر في كل جانب لافتات تدل إليه، يقع المتحف في وسط الحي القديم وسط المدينة، ويشغل قصراً كبيراً شيد في عصر النهضة، ثم رُمِّم عام 2003م، ويضم المتحف مجموعة كبيرة من اللوحات والأعمال الفنية تتجاوز 150 عملاً متنوعاً من الرسم والحفر والجرافيك والتصوير بالألوان المختلفة وتماثيل وأعمال خزفية متنوعة بما أنجزه بيكاسو خلال حياته المديدة (1881م-1973م).
والجميل في هذا المتحف تنسيق لوحاته على جدران القاعات الكبيرة بأسلوب فني رائع يتيح للزائر أن يشاهد كل عمل مستقلاً بذاته على أرضية كبيرة وبلون مناسب وإضاءة موجهة تبرز العمل الفني في أفضل حالاته، كما يضم المتحف قاعة عرض سينمائي تقدم بشكل مستمر مقاطع من حياة الفنان ورحلاته ونشاطه ومعارضه ومقابلاته، أو خلال قيامه بتنفيذ بعض الأعمال الكبيرة، إضافة إلى مكتبة مختصة بالكتب عن الفنان تتألف من قسمين: الأول للمطالعة والقراءة في قاعة خاصة، والثانية يُعرض فيها جميع ما نشر عنه من كتب ومنشورات وإعلانات ووثائق ومطبوعات ومشغولات تطبيقية يقتنيها الزائر للذكرى وبلغات عدة، أما الدخول إلى المتحف فمجاني في أوقات وبسعر رمزي في أخرى.