د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كثير من الأدباء وغير الأدباء العرب يحبون الفكاهة؛ لأنها تريح القلب، وتجلب السرور، وتُنسي المرء الهموم، وتخرجه من دائرة الأحزان إلى بر السعادة والنسيان، فيها متعة القلوب، والأنس مع المحبوب.
والفكاهة قد تكون للإضحاك فقط، وقد تتعدى ذلك إلى الغمز واللمز لبلوغ غاية، أو توصيل رسالة. وهذه الرسائل إما أن تكون اجتماعية، أو سياسية. وصاحب الفكاهة إما أن يكون عاقلاً كيسًا، يرسل رسائله لغايات نبيلة أو غير نبيلة، أو أن يكون فيه شيء من الخروج عن المألوف في فكره وتصرفاته ومن ثم قوله، وقد يكون فيه من الظرافة ما يجعل قوله مقبولاً، وحديثه معلولاً.
أما كتب الشعر والنثر العربي فهي مليئة بمثل هذا الفن، وربما أصبح أكثر وضوحًا وتصريحًا، وليس تلميحًا، في العصرين الأموي والعباسي وما تلاهما من العصور، وما رافقهما من دويلات أو ممالك أو حتى من ادعى الخلافة مثل عبد الرحمن الناصر الأندلسي الأموي الذي غيّر لقبه من أمير إلى خليفة، بعد أن رأى ضعف الدولة العباسية، وهذا ما لم يجرؤ عليه أسلافه، ولا هو ذاته في بداية عهده.
والدوافع لمثل هذا الفن - إضافة إلى النقد الاجتماعي والسياسي - قد تكون بغرض الانتقام أو الحقد أو المنافسة بين شاعرين أو ثائرين أو أصحاب نفوذ، وقد تكون الفكاهة والاستهزاء بالآخر غاية أخرى، وهي إضحاك حاكم أو والٍ أو صاحب مال أو نفوذ، أو ربما يكون للنيل من قبيلة؛ ولهذا كانت القبائل تكرم بعض الشعراء اتقاء شرهم، أو طمعًا في مدحهم.
وقد أُلّفت كتب كثيرة في هذا الباب، مثل بعض كتب الجاحظ، وأخبار أبي نواس لابن حرب، وعيون الأخبار لابن قتيبة، وأخبار الحمقى والمغفلين لأبي فرج بن الجوزي، ومن الأندلس العقد الفريد لابن عبد ربه، ورسائل ابن شهيد الأندلسي المسماة التوابع والزوابع، التي وضعها على شكل قصة؛ إذ كان يخطب فارتج عليه، فخرج عليه جني اسمه زهير بن نمير، ويسير مع هذا الجني على مهر أدهم في عالم الجان وعالم بعض الأموات، فيزور امرأ القيس، وطرفة بن العبد، وأبا تمام، وابن الحطيم، وأبا الطيب المتنبي، وأبا نواس، ويعارضهم بشعره، وضمن ذلك رسائل، مثل رسالة الحلوى، وصفة البرغوث، وصفة الثعلب، وحكمة بين بغال الجن وحميرهم، كما ينقل لنا حديثه مع الأوزة الأدبية، وهو في كل ذلك يسخر ويضحك ويغمز ويلمز لمنافسيه، يذكر أسماء البعض، ويتلافى البعض الآخر إما خوفًا أو أملاً؛ حتى لا يسد باب العودة. وممن ذكرهم أبو القاسم القالبي، وأبو محمد، والفتح.. وكلهم إعلام مشهورون.
وابن زيدون في رسالته الهزلية قد سخر من منافسيه على حب ولادة فجاءت رسالته المشهورة التي ألّف حولها الكثير؛ لما حوته من سبك رائع، وقول جامع، ولفظ لاذع. وكذلك بعض شعره الذي يتهكم فيه على منافسيه على قلب هذه الأميرة الأديبة؛ إذ يقول عن الوزير أبي عامر أحد منافسيه عليها:
قالوا أبو عامر أضحى يلم بها
قلت الفراشة قد تدنو من النار
أكل شهي أصبنا من أطايبه بعضا
وبعضا صفحنا عنه للفار
بقوله الفار؛ لأن هذا أحد ألقاب الوزير أبي عامر.
أو لقوله عندما زاره بعض مجالسيه وهو في السجن، فرفع شكواه إلى عميد لجماعة من قرطبة ذلك الزمان أبي الحزم بن الجهور:
أذؤب هامت بجسمي
فانتهاس وانتهاش
كلهم يسأل عن حالي
وللذئب اعتساس
واليوم، وعبر قنوات التواصل الاجتماعي، أصبحت الفكاهة تصل إلى أغلبنا تترا، فيها الغث والسمين، والصحيح والسقيم، والصدق والكذب، والحق والافتراء، والنصح والابتلاء، والإيضاح والتشهير، والتصحيح والتبرير.. ولم يعد يعرف هذا من ذلك؛ إذ تمازجت، وتداخلت، ولم يعد إلا كل ذي لب حصيف؛ ليميز بعقله المليح من السخيف.
هذا، والقرآن الكريم بين أيدينا نقرؤه وهو الناصح لنا بقول الحق والصدق في القول، وتجنب أعراض الناس، والحرص على الوحدة والتآلف والتماسك.