ياسر صالح البهيجان
ما يزال النظر إلى التاريخ بوصفه حاضنًا لذاكرة الماضي وأحداثه مثار جدل لدى دارسي سيرورة المجتمعات البشرية، حيث استحال التاريخ إلى معايير أخلاقية وقيم اجتماعية راسخة تحدد السلوك الإِنساني، وباتت بهذا المنظور الضيّق معوقًا رئيسًا للاتجاه نحو السمات الموسومة بالتحضر الذي عادة ما تنتج على أسس الابتداع والتجديد التي قد تصل أحيانًا إلى حد إيجاد نوع من القطيعة مع الماضي أو جزء منه.
التاريخ كان سببًا في تطور المجتمعات عندما كان يُنظر إليه كراصد لآليات التغير والتحديث، ومحفز لتكرار تجارب الطفرات الاجتماعية الخلاقة، لكن النظر إليه تحول شيئًا فشيئًا إلى داعية للجمود في ظل سيادة العقلية الرجعية التي تمنح التاريخ صفة القداسة ما فرض حالة توجس وقلق إزاء أي تجديد يروم تجاوز أغلال الماضي والاتجاه نحو تأسيس مجتمعات مدنية لا تؤمن بالعادات والتقاليد التي تجاوزها الزمن، بل تعطي الأولوية للقوانين والمستجدات الحضرية في بناء التصورات الذهنية واتخاذ القرارات ذات الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية.
التغيرات الاجتماعية في جوهرها ليست تمردًا على الموروث التاريخي بقدر ما هي إثراء للتاريخ، لأن أي طفرة تجديدية ستتحول مع مرور الزمن إلى لحظة تاريخية فارقة تلهم الأجيال المقبلة وتدفعهم إلى التقدم وفق الاشتراطات الظرفية المنسجمة مع التحولات الفكرية في زمنهم، وهكذا يصبح التاريخ صانعًا للمستقبل ومحتفيًا به قبل أن يتحول إلى جزء منه ومكون رئيس من مكوناته.
العيش في الماضي وتهميش اللحظة الحاضرة معضلة كبرى كحال من يطالب بالقطيعة المطلقة مع كل ما هو تاريخي، ما يفرض نظرة أكثر اعتدالاً إزاء الموروث. التاريخ ذاكرة خصبة تؤسس للتطور المرحلي بما تحمله من حكايا وأحداث من شأنها أن تمنح الإنسان الحديث قدرة على فهم الواقع، والانطلاق نحو سبر أغوار المستقبل، لذا فإن الماضي وإن تلاشى زمانيًا إلا أنه يظل موجودًا دائمًا في مسيرة البشرية، ومن خلاله يستطيع الفرد تحديد موقعه في خريطة الزمن، ويدرك مسؤولياته تجاه ذاته ومجتمعه ليبذل ما يُنتظر منه في سبيل صناعة واقعه وتحقيق مبدأ الفاعلية بوصفه كائنًا اجتماعيًا نشطًا لا يكتفي بمشاهدة ما يجري بل يسهم في حدثان الوقائع القابلة للتأريخ.
والتاريخ عادة ما يخضع للمراجعة والتمحيص والقراءة والتأويل سعيًا للاستفادة القصوى من منجزه، لذلك من الضروري التخلي عن التوجس من أي مشروع يحاكم الأحداث التاريخية وفق أسس علمية تضبط فلتاته وتعيد ترميم أجزائه المترهلة والمتناقضة في بعض منها، لتصبح المادة التاريخية قابلة للفهم والاحتواء، وعندها يكون قابلاً للاستثمار والتطويع بما ينسجم مع التحولات الفكرية الراهنة، وهذا ما تعنيه مفردة إحياء التراث لا بوصفها استخراجا للأحداث من بطون الكتب الخاملة، وإنما بالاشتغال الفكري والنقدي الواعي والمدرك لأبعاد التاريخ وما يحمله من نسقيات أسهمت في تشكل ذهنية المجتمعات ووعيها الجمعي.