إبراهيم عبدالله العمار
هذا ما يبدو! أو على الأقل هذا ما يقوله ناصر غيمي أستاذ علم النفس في جامعة توفتس الأمريكية، وذلك في كتابه الشائق «جنون من الدرجة الأولى»، والذي حلل فيه شخصيات قادة ومشاهير وأظهر أن بعض الأمراض النفسية تقوّي القدرات القيادية وشخصيات الناس إذا أحسنوا استغلالها، ومنهم وينسون تشيرشل رئيس الوزراء البريطاني الشهير.
تشيرشل بطل في بريطانيا، ومشهور عالمياً، فهو الذي قاد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية لما أثار هتلر خوف أوروبا برغباته التوسعية، واشتعلت الحرب العظمى ودخلت فيها بريطانيا، وأشهر خطبة قالها تشيرشل كانت في 4 يونيو 1940م لما سحق هتلر جيش فرنسا وأجبرها أن تستسلم في شهر فقط، وفي خطبته هذه حذّر تشيرشل أن ألمانيا قد تغزو بريطانيا، وقوّى من عزم الناس لما أصر أن بريطانيا لن تستسلم رغم تطور وجبروت ألمانيا، وآخر الخطبة هو أشهر شيء والذي قال فيه: «سنحارب للنهاية، سنحارب في فرنسا، سنحارب في البحار والمحيطات، سنحارب بثقة وبقوة، سندافع عن بلدنا مهما كان الثمن، سنقاتل في الشواطئ، سنقاتل في مناطق الإنزال، سنقاتل في الحقول وفي الشوارع، سنقاتل في التلال، لن نستسلم أبداً!».
انتصر الحلفاء وبريطانيا في الحرب لكن بثمن باهظ وخسائر فادحة، وينسب الكثير من الناس الفضل إلى تشيرشل.
لم يكن تشيرشل عادياً بل كان يعاني من مشاكل نفسية، ويظهر أنها وراثية، فقد عانى أبوه من اضطرابات نفسية، وابنة تشيرشل انتحرت بسبب الاكتئاب، وابن عمه عانى أيضاً من الاكتئاب.
ماذا عن تشيرشل نفسه؟ من أعراضه أنه كانت تمر به نوبات اكتئابية شديدة، وتكلم عنها بصراحة، حتى أنه ذكر تفكيره أكثر من مرة في الانتحار، وقال لطبيبه: لا أحب أن أقف قرب قطار، بل يجب أن أجعل بيني وبينه عموداً أو شيئاً، فثانية واحدة كفيلة بإنهاء كل شيء». وقال: «لا أرغب الانتحار لكن اليأس لا يتركني».
غير نوبات الاكتئاب كان لديه نوبات عدوانية، وأيضاً تذبذب مزاجه كثيراً، وقال أحد معارفه إن تشيرشل يتراوح بين اكتئاب شديد وبين ثقة عالية.
قال أحد مرؤوسيه من قادة الجيش: «إنه كتلة من التناقضات! إما على رأس الموجة أو في حضيض المجرى، إما يثني عليك بحماس أو يهاجمك بقسوة». إذا لم يكن مغموماً مكتئباً فقد كان بالغ الحماس والنشاط والاجتماعية، كتب 43 كتاباً وكان جندياً حارب كثيراً وأُسِر، كان ذا محاورات اجتماعية كثيرة بعضها اشتهر بسبب طرافتها، منها ما قالته زوجة أحد كبراء البلد التي اغتاظت منه وقالت: لو كنت زوجتك لوضعت لك السم في الشاي. فرد عليها: ولو كنت زوجك لشربته!.
كان يفكر ويتحرك ويعمل، ثم ينطوي ويكتئب، ثم يعود لنشاطه. هذه الأعراض جعلت العالِم غيمي يعتقد أن تشيرشل عانى من اضطراب ثنائي القطب. كيف قوّى المرض تشيرشل؟ الواقعية. عام 1940م لو كان رئيس الوزراء شخصاً عادياً لرأى حال بريطانيا اليائس ولاستسلم، فقد كانت كل العوامل ضدها، لكن من أعراض اضطراب تشيرشل شيء يسمى الواقعية الكآبية وهي أن المكتئب أكثر واقعية في نظرته للحياة من غيره، وهذا ما جعل تشيرشل يتحاشى العوامل التي بعثت اليأس والاستسلام في نفوس البريطانيين وينظر نظرة أبعد جعلته يوقن أن اليأس يمكن قهره وأن المقاومة ستثمر رغم جبروت العملاق الألماني المرعب. هذه الواقعية أيضاً جعلته يرى خطراً في نوايا هتلر، بينما بقية الناس لم يروا هذا بل ظنوا أنه قائد رائع وعظيم.